علاقة الفلسفة بعلم النّفس


توجد بين علم النّفس و الفلسفة صلة خاصّة لأنّ كلاّ منهما يبحث في الانسان محاولا الكشف عن أسراره. و إذا اختصرنا القول في عمل الفيلسوف أمكن حصره بصفة مجملة في : النّظر في ذاته و حول ذاته. لذا نراه على مرّ العصور يطرح تساؤلا مستمرّا : " من أنا؟ " – " كيف أستطيع أن أميّز ذاتي عمّا يحيط بي؟ " – " ماذا أعرف؟ " – " ما هيّ علاقتي بمجموع الأشياء، و ما هي علاقة الأشياء ببعضها البعص؟ " ... و ليست السّيكولوجيا بعيدة عن هذا المدار. يدرس علم النّفس – بالنّسبة للإنسان – السّلوك و الحالات النّفسيّة الواعية و غير الواعيّة محاولا وضع قوانين هذه الظّواهر مع شرح نشأتها. و مهما كان اختلاف وجهة النّظر بين هذين الميدانين نرى أنّ نقطة الالتقاء بينهما ثابتة: محاولة الكشف عن أسرار الإنسان. أمّا المظهر الثّاني من مظاهر الصّلة بين السيكولوجيا و الفلسفة فهو ما يثبته التّطوّر التّاريخي: علم النّفس – باعتباره علما مستقلا بذاته – تمّت نشأته انطلاقا من الفلسفة. يقول الدّكتور سارجنت ( في كتاب علم النّفس الحديث ) " إنّ الجمهرة العظمى من الاجتهادات السّيكولوجيّة نبعت من عقول الفلاسفة. و قد عرّف عمل هؤلاء الفلاسفة بـ " علم النّفس النّظامي " تمييزا له عن كلّ من علم النّفس الفيزيولوجي و علم النّفس التّجريبي. و في استطاعتنا اعتبار أرسطو و أفلاطون و لوك و هيربارت من هذه المدرسة. أضف إلى ذلك أنّ الّذين نادوا بضرورة اعتبار السيكولوجيا علما مستقلا قائما بنفسه كانوا أساسا من فلاسفة التّفكير أمثال: ألكسندر بين Alexander Bain و وليم جيمس William Jams . و النّاظر في تطوّر علم النّفس يرى أنّ بداية استقلاله اتّسمت بدراسة مواضيع موروثة عن مشاغل فلسفيّة: فمذهب النّشوء و الارتقاء الذي يمثّله دارون و الّذي يقول بأنّ جميع أشكال الحياة تطوّرت من أشكال دنيا، أوجب على الدّارسين ملاحظة وجوه الشّبـه بيــن سلوك النّاس و سلوك الحيوانــات. و من ابرز مآثر الفيلسوف هربرت سبنسر Herbert Spencer في نطاق علم النذفس ما يتعلّق بنظريّة انتقال الخصائص من الآباء إلى الأبناء عن طريق الوراثة. و إذا أخذنا بعين الاعتبار طريقـة البحــث و الاستجلاء عنـد الفلاسفــة و السّيكولوجيين نلاحظ انّ ما يثعرف بالاستنباط مسلك مشترك بين الصّنفين: " فالتّعمّق فـي طلــب الأسرار صفــة مشتركة بيــن الصّوفيّــة و فلاسفة التّفكير الذين يغوصون على الحقائق البعيدة و علماء النّفس الذين ينقبون عن ودائع الوعي الباطن و غرائب السّريرة الإنسانيّة " ( عباس محمود العقاد – التفكير فريضة إسلامية ). و قد ينصهر الاستنباط مع الحدس ليصبحا شيئا واحدا – " و قد كان برجسون Bergson هو الفيلسوف الذي أكّد شأن الحدس و رفع مكانته و قد أكّد قوّة الحدس معارضا باه الاسراف في لإعلاء شأن المعرفة العلمية التّجريبية... و عند برجسون أنّ الحقيقة في مجموعها شيء حيّ، و الحياة هي الحقيقة الماثلة خلف المادّة، و من ثمّ لا يمكن أن نفهم شيئا فهما كاملا إلا أن طريق الحدس. و الحدس هو الوسيلة لفهم ما نحتاج معرفته إلى نوع من التّعاطف و الاندماج الدّاخلي"، ( مجلّة العربي – علي أدهم ). و يشترك مع برجسون Bergsonفي موقفه من الحدس عدّ مفكّرين منهم وليم جيمس William James وهو من أكبر ممثّلي علم النّفس الاستبطاني. لا شكّ أنّ المذاهب السيكولوجيّة أو الانحياز إلى طريقة معيّنة كالاستنباط مثلا مردّه في أغلب الأحيان إلى رؤية فلسفيّة. فما يُعرف مثلا بـ" الظّواهريّة" أو الفينومينوجيا La phénoménologie التي أسّسها هويسارل Husserl ، و ناصرها عدّة وجوديين أمثال سارتر Sartre دليل واضح على هذه العلاقة. و الرّكيزة الأولى التي يبني عليها هوسارل Husserl فلسفته هي القصديّة l’intentionalité و يعني بها " أنّ كلّ وعي هو وعي بشيء و كلّ فكرة هي فكرة عن شيء ". و ملخّص هذه الفلسفة أنّها تثور على القديم الذي كان يقتضي الفصل بين ذات الانسان العارفة و الأشياء التي يعرفها. و تبعا لهذه الرّؤية الفلسفية أسّس أتباع هوسارل سيكولوجيا تبني مسالكها انطلاقا من الفرد الواعي. كلّ هذا يجعلنا نفهم بوضوح انقسام علم النّفس إلى اتّجاهين متقابلين: اتّجاه السيكولوجيا العلميّة التي تقوم على الملاحظة و التّجربة و اتّجاه السيكولوجيا الفلسفيّة المبنيّة على الوعي و التّفكير. و مظهر آخر من مظاهر العلاقة التي نبينها بين الفلسفة و علم النفس يتمثّل في شمول الفلسفة أي تغطيتها لكافّة ميادين المعرفة: إنّها تعزّز كلّ علم مخصوص و تتجاوزه. كيف ذلك؟ تحتضن الفلسفة كلّ مكوّنات الطّبيعة لكنّها تصوغها بشكل خاص و تنظر إليها نظرة شاملة لا مجال للتّجزئة فيها و تفسّرها بلغة خاصّة: " إنّ أعمال الطّبيعة و أعاجيبها و نظامها و دقّتها فوق أفهامنا، و فوق منطقنا و تفكيرنا و تعليلنا. كلّ صغير ممّا لا يُرى إلا بالمكروسكوب، أو كبير بالتلسكوب، يحمل حياة عجيبة يدق سرها عن الفهم، و يقصر عن إدراكها العقل، الحبّة في الأرض، و الذّرّة في الهواء، و السّمكة في الماء، و النّجم في السّماء. " نقرأ الصّفحات الأولى من الطّبيعة فنرى الجمال و الجلال و الحُسن و الانسجام و العظمة و دقّة الصّنع، و عجائب الغريزة، و نقرأ الصّفحات الثّانية فنرى القسوة و الفظاعة و التّعذيب و الإيلام. " من القديم حار العقل في تفسير هذه الظّواهر المتناقضة. كيف يكون من الطّبيعة بجانب هذه الحكمة هذا السّفه؟ و كيف يكون بجوار هذه الرّحمة هذه القسوة؟ و كيف يكون مصدر هذا التّلذّذ مصدر هذه الآلام؟ " ( فيض الخاطر – أحمد أمين ). هذه هي لغة الفلسفة في نظرة من نظراتها الشّاملة إلى الطّبيعة وهي نظرة تتجاوز باه العلوم و لا تناقضها – و الإنسان – باعتباره محور الطّبيعة – يحضى من قبل الفلسفة بالمرتبة الأولى في الغاية. فمنه يكون منطقها و به يكون غذاؤها و إليه يكون مآلها.

3/Post a Comment/Comments

  1. جميل، لكن مني أحلى تحية من المغرب الأقصى.

    ردحذف
  2. اريد علاقة الفلسفة بعلم أجتماع من فضلكم

    ردحذف

إرسال تعليق