قراءة تاريخية و أنثروبولوجية.






   كنت متأكّدا حتّى وقت قريب بأن ختان الإناث عادة خاطئة يفعلها المسلمون ولها أصل فرعوني،ولكن عندما سألني أحد مرضاي المسيحيين عما كنت أستطيع إجراء عملية الختان لطفلته الصغيرة اندهشت مرتين ،الأولى لأنه طلب منى أنا شخصياً هذا الطلب، أما الدهشة الكبرى فقد كان مصدرها أن الطالب مسيحي الديانة وهنا خاب ظني وأيقنت أن ختان الإناث عادة عابرة لحواجز الأديان والجنسيات !،وقد جعلني هذا المريض أعيد البحث فى الأصول التاريخية لهذه العادة البربرية بعيدا عن الأديان ،وعندما قرأت بعدها عن وضع المرأة المميز في العصر الفرعوني عدت للتشكك في أن أصل الختان فرعوني كما يدعى الكثيرون وكما كنت أنا شخصياً معتقد ،ومن هنا قررت الخوض في بحار وعواصف تاريخ الختان الشائك حتى نفهم معاً من أين نبعت كل هذه الأنهار الدموية؟ .
   يحكى المستشار ماهر برسوم عبد الملك قصة لها دلالة مهمة فى كتابه "مذكرات مستشار مصري " جرت أحداثها أثناء عمله كوكيل نيابة في الصعيد حيث استدعي لتحقيق حادثة سقوط شخص من القطار مما أدى لبتر ساقه ،وعند سؤال المصاب اتّهم حماه، وعندما تمت مواجهة المتّهم دافع عن نفسه بجملة كان فيها الإفحام والإقناع كله فقد قال: " وده معقول ي ابيه أرميه من القطر ده واخد عاري !!"،وقد إرتعشت عند قراءة هذه الجملة البليغة التي لخصت المسألة كلها، إن المرأة عار والرجل هو الذي يخفى آثار هذا العار فمن الممكن أن يخفيه بالقتل أو يرمى تبعته عن كاهله بالزواج أو يكيف و"يأيف " هذا العار منذ الطفولة بالختان ،إنها آثار عهد العبودية والإقطاع والرق والجوارى التي امتدت لتعشش فى عقول البعض من ضعاف النفوس ومرضى العقول من الرجال الذين مازالوا يعيشون بمنطق شهريار وسلوك الطاووس الذي إن أنصف المرأة فمن باب الإنعام والهبة وليس من باب الحق المشروع والواجب الملزم ،وكما كان يمارس الإخصاء في العصور الإقطاعية حتى يضمن السيد أن العبد لن يلعب بذيله وحتى يضمن أن قوته الجسمانية لن تضيع أدراج الرياح في النزوات ، فبعد أن تم استبدال السيد الرجل بالسيد الإقطاعي تم "الإخصاء الأنثوي" الجديد عن طريق الختان حتى تصبح ممتلكات الرجل خالية من التلوث الإشعاعي الجنسي والقذارة الشهوانية التدميرية الشّاملة !،ولأن أصل كلمة البظر الطبية معناها المفتاح فقد فعل السادة بنفس منطق حزام العفة ختان المرأة حتى لا تفتح به باب الشهوة !.



   يرفض الكثيرون من الأطباء والباحثين نسبة ختان الإناث إلى الفراعنة ومنهم د.محمد فياض ود.نوال السعداوي ود.سامى الذيب وغيرهم بالرغم من تسمية أهل السّودان لأفظع وأبشع أنواع الختان ب"الختان الفرعونى " ،فتقول د.نوال السعداوي أن أندونيسيا مارست ختان الإناث قبل مصر القديمة " ولقد أثبت علم التاريخ والأنثروبولوجى أن هذه العمليات ،الختان و الإحصاء وغيرها ،لا علاقة لها بالمصريين أو العرب أو المسلمين أو اليهود أو المسيحيين أو البوذيين أو غيرهم ،إنها ترتبط بنوع النظام الاجتماعي             و الاقتصادي السائد فى المجتمع وليس نوع البشر أو دينهم أو لونهم أو جنسهم أو عرقهم أو لغتهم " وتضيف " إن القارة الأفريقية أو اللون الأسود ليس مسئولاً عن هذه الجريمة وإنما هى إحدى جرائم العبودية في التاريخ البشرى ،إلا أنها بقايا النظرة العنصرية التي تتصور أن مشاكل الدنيا بما فيها الإيدز أصلها أفريقي ،أو على الأقل بدأت في أفريقيا ثم انتقلت بالعدوى فقط إلى الجنس الأبيض " ،ويقول د.سامي الذيب صاحب أهم الدراسات عن الختان أنه قد يرجع سببه للنظام الذكوري الذي يشرع تعدد الزوجات ونظام العبيد ،ويشير إلى كتاب الكاماسوترا الهندي الذي يتحدث عن كيف أن الرجل في نظام الحريم كان لا يمكنه أن يرضى جميع النساء اللاتي يمتلكهن ،فقد يتداول العلاقة الجنسية مقسماً لياليه بينهن ،وقد يختار إحداهن ليمارس الجنس معها ،بينما تقوم المحرومات بممارسات وحيل غير مشروعة للوصول إلى الرجل أو تعويض هذا الحرمان ،وللحد من هذه الممارسات غير المشروعة قام الذكور بفرض الختان على الإناث باعتباره وسيلة للحد من شهوتهن ومنع اختلاط أطفالهم الشرعيين بأطفال من رجال غرباء ،ويؤكد د.أحمد شوقي الفنجري على هذا المعنى قائلاً " تعود هذه العملية إلى عصور الإقطاع حين كان الإقطاعي يمتلك الآلاف من البهائم والغنم إلى جانب المئات من العبدات والعبيد ،وكان يعامل البهائم والبشر على السواء على أنهم ملك له ،فكان يخصى الذكور من البهائم حتى لا تحمل الإناث وهن في مرحلة إدرار اللبن ،ويخصى الذكور من العبيد حتى لا يقتربوا من نسائه ،أما الإناث من البهائم فكانوا يضعون فى أرحامهن قطعة من النوى أو زلطة حتى لا تحمل في وقت غير مناسب،  أمّا العبدات فكان يعتبرهن ملك له فقط دون غيره رغم أن أعدادهن بالمئات ،فكان يختنهن لقتل الشعور الجنسي حتى لا يستمتعن بالجنس لأنه لا يستطيع إشباعهن جميعاً "،إنها ليست مسألة مكان بعينه أو دين بذاته هي التي صنعت الختان ولكنها مسألة إحساس العبودية الذي لو تغلبت عليه انتفى سبب الختان وأصبح مرفوض اجتماعيا ،وعلى العكس لو استسلمت له لصار الختان مناسبة يجب الاحتفاء بها والترويج لها ،ويستخدم في هذا الاحتفاء والترويج الدين تارة والعادات تارة أخرى لكي تغطى هذه العادة الوحشية بورق سيلوفان جميل يجعله مقبولاً بل ومطلوبا أيضا .



   عندما يسيطر الفكر الأسطوري الغيبي على مجتمع يظل محتفظاً في بنائه بالخرافة التي تنتقل عبر جيناته الوراثية جيلاً بعد جيل خاصة عندما يتوارى المنهج العلمي في التفكير ويفشل في إحداث التوازن وخلق الطفرة التي تجعل الأسطورة جزءاً من الفولكلور لا مكونا للتّفكير والفعل والاختيار والقرار، والأعضاء المبتورة تمثل منذ قديم الزمان وفى معظم الأساطير قرابين ومكونات خلق ،ففى أسطورة ريجفيدا الهندية تم ربط "بروزا " وتقديمه ضحية وخلق العالم من أشلائه فمثلاً من عينه خلقت الشمس وهكذا ،ومعظمنا يعرف قصة إيزيس و أوزيريس الذى مزقه إله الشرّ " ست" فحاولت إيزيس جمع أشلائه ولكنها فشلت في العثور على عضوه التناسلي الذي ابتلعته ثلاث سمكات تمثل قوى الشر ،ومن الأساطير الأفريقية القديمة أسطورة قبيلة "مانتجا " التي تصارع فيها الأخوان "باجنزا " و"ياكومو " أمام الإله وجرح فيها الأول وتم ختانه ،وبعد شفائه رفض العلاقة الجنسية مع زوجته التي طلبت أن تختتن هي الأخرى لكي ترضى زوجها ،وأسطورة التضحية بعروس النيل التي تحدثنا عنها سابقاً هي مجرد إشارة لأهمية التضحية أو القربان في الفكر الأسطوري ،وهو تارة يستخدم لتفادى غضب الآلهة وتارة أخرى كطقس للعبادة ،ومن ضمن هذه القرابين حرق الأجساد وبتر الأعضاء ،فبعض القبائل الأفريقية تضحى بالخصية اليسرى أو اليمنى رغبة منهم في اتقاء شر ولادة التوأم !،وهنا يصبح الختان مجرد ظلال أسطورة ورمز للتضحية الدينية التي تتحول رويدا رويدا لعلامة تميز وتفرد لقبيلة ما أو أصحاب دين ما أو سكان بلد ما يوحدهم هذا الطقس وينقذهم من الشتات الاجتماعي .



   هذا التّوحّد أو هذه الرّغبة العارمة في التّشابه وخلق الانتماء والتّطابق المزيّف المزعوم يجعل من الختان وسيلة سهلة وسريعة لتحقيق كل هذا بمجرد ضربة مشرط ونزف دماء وتضحية بجزء هو فى عرف العامة جزء زائد عن الحاجة يجلب وجع الدماغ والهياج الجنسي، ورغبة أفراد المجتمع فى أن يكونوا نسخ متكررة فوتوكوبى من بعضهم هي امتداد للفكر العبودي الذي خلق ورسخ عادة الختان ،وتعبر د.كاميليا عبد الفتاح عن تأثير هذا التطابق على عادة ختان البنات قائلة " إن عملية ختان البنات تندرج تحت مفهوم التطابق فى المجتمع ،ويظهر ذلك فى توقع حدوث الختان وضرورته وفى الرضي عنه     و الاقتناع به ،وإلى جانب رغبة البنت فى التطابق فهناك دلالة نفسية لكل هذا وهى إحساس البنت بالأهمية ولو لمدة أيام ،تلك الأهمية التي تفتقدها البنت عادة في مجتمعنا ،وهذا الفرح الذي يغمر الأسرة يعلق بذهن الفتيات الصغيرات اللاتي يطالبن بأن يجرى لهن الختان كنوع من التقاليد والمشاركة الوجودية والتطابق مع قيم المجتمع "،والمدهش أن هذه الرغبة في التشابه التي تذكرها د.كاميليا قوية على عكس ما نعتقد أن الألم يتغلب عليها ،فالرافضة لقيم المجتمع المستقرة أو بالأصح التي يريد لها البعض الاستقرار لتحقيق مكاسبه ،هذه الرافضة خاسرة وتصرفاتها مستهجنة وصديقاتها تعايرنها بأنها أقل منهن مما يضطرها لطلب الختان !،ويورد د.سامي الذيب بعض الأمثلة التي من الممكن أن نستغربها في البداية ولكن عندما نلمس عن قرب وطأة وسطوة التقاليد سيضيع هذا الاستغراب ،فهو يقول أن المجتمع السوداني يضع غير المختونات ضمن ثلاثة خانات الأطفال والمجنونات والعاهرات ،وتشير إحدى الدراسات الميدانية التي أجريت في الصومال أن الفتيات اللاتي يتركن بلا ختان لمدة طويلة يطالبن تكراراً بختانهن لأن عدم ختانهن يجعل منهن منبوذات في محيطهن و لا يمكنهن أن يجدن زوجاً إلا خارج مجتمعهن ،وقد صرحت إحدى الممرضات غير المختونات بأنّها تعيش مأساة وتفضل ألف مرة الموت على أن تعيش منبوذة !،وأعتقد أننا في مصر لابد أن نخلق إلحاحا حول خطورة الختان حتى نكسر هذه الرغبة في التشابه ،ولابد من كسر هذه الحلقة الجهنمية في سياسة القطيع التي تخلق نوعاً من الراحة المزيفة، ويظل يقنعك تيار ليس في الإمكان أبدع مما كان أن التغريد خارج السرب برغم أنه يمنحك متعة التميز إلا أنه يفقدك دفء القطيع ،وتصدق الفتيات والأمهات هذا الهراء ويفضلن حالة أسر السكون والركود الذي يصل لحالة التعفن على حرية الحركة والتغيير والتقدم..


  و لأنّ العبد مجرد شئ أو جزء من المتاع الإقطاعي فإن التصرف معه يتم بنفس الطريقة التي يتعامل بها الإقطاعي مع ممتلكاته ودوابه ومزرعته ،فكما يسمن أبقاره حتى تعطى مزيداً من اللحم واللبن فإن المجتمع المتأثّر بالفكر العبودي يختن المرأة لتجهيزها للزّواج ،أو باختصار علشان تعجب السيد الذي هو الرجل ،وكما تقول أسطورة أفريقية لقبيلة " دوجون " أن الإله "أما " قبض على مصران ملئ بطين فخاري ورماه فتكونت الأرض على شكل امرأة مضطجعة على ظهرها ،وعندما أراد "أما " لقاء هذه المرأة منعه هذا العضو الملعون فقام الإله بقطعه ليتم اللقاء ،ومازال هذا الاعتقاد هو أساس عملية الختان حتى الآن في تلك القبيلة ،والأفارقة لهم رأى غريب في سبب الختان وهو أن الفتاة الصغيرة تستمتع بطريقة ذاتية ولذلك عندما تكبر لابد أن يقطع مصدر اللذة الذاتية حتى تبحث عن الرجل وعن الزواج ،والأشد غرابة أن هناك مجتمعات في كينيا وأوغندا وغرب أفريقيا تستطيع فيها الفتاة الإنجاب خارج العلاقة الزوجية لإثبات خصوبتها وبعد الإنجاب يتم ختانها إعداداً للزواج ،وقد أوضحت ممثلة لجنة النساء الغينيات فى مؤتمر داكار 1984 أن الفتيات المختونات يبقين فى غرفة واحدة أو فى الغابة المقدسة لمدة شهر حتى يشفى الجرح ،وفيها تقوم إمرأة عجوز بمراقبتهن وتعليمهن القصص و الأغاني الشعبية ودور ربة البيت ...الخ وبعد الخروج من هذه العزلة يصبحن صالحات للزواج ،أما في مصر فتوجد بردية كتبها باليونانية كاهن مصري يرجع تاريخها إلى عام 163 قبل الميلاد يؤكد فيها على العلاقة بين الختان والزواج ،ويذكر د.سامي الذيب رواية للرحالة الإسكتلندى "جيمس بروس " حول محاولة المبشرين الكاثوليك فى مصر في القرن السابع عشر منع ختان الإناث على أتباعهم ولكنهم تراجعوا عن هذا المنع عندما رفض الرجال الزواج من النساء الكاثوليكيات غير المختونات !،وتذكر د.آمال عبد الهادي في دراستها عن قرية دير البرشا ذات الأغلبية المسيحية التي تخلت عن ختان الإناث أن أكثرية الناس كانوا يرفضون مساعدة الغير فى عدم ختان بناتهم وكان سبب رفضهم ما يلي " كل واحد يحكم على بيته لنفرض أنني نصحت أم بعدم ختان بنتها ثم لم تتزوج فماذا سيكون موقفي ؟!".
كما يمثل عدم الزواج هاجساً بشعا وملحا من بقايا العصر العبودي الذي يعامل العانس كعار وعبء ومصدر نحس ،فإن العقم وعدم الخصوبة هو الهاجس الأشد وطأة لأن المرأة في هذه المجتمعات هي ماكينة تفريخ لفقس الأطفال ،و أي خلل في هذه الوظيفة هو بمثابة تجريس مزمن للمرأة ،ولذلك تعتقد بعض القبائل فى نيجيريا أن البظر عضو خطير يؤذى رأس الطفل إذا مسه ومن الممكن أن يصل الإيذاء لحد القتل ،ولهذا السبب يتم ختان المرأة في الشّهر السّابع من الحمل إذا لم تكن مختونة قبل الحمل ،وهناك اعتقاد في بوركينا فاسو أنّ بظر المرأة يجعل الزّوج عاجزاً جنسيا وقد يموت أثناء العملية الجنسية، وفى مناطق ساحل العاج يعتقد أن المرأة غير المختونة لا يمكن أن تنجب، وهناك أسطورة تقول بأنّ الفرج له أسنان تضرّ بالرجل وأنّ البظر هو آخر سنّ فيه يجب قلعه، وتعتقد بعض القبائل بأنّ الختان يزيد الخصوبة وأنّ البنت غير المختونة تفرز إفرازات قاتلة للحيوانات المنوية للزوج ،وفى مصر تحكى مارى أسعد و حلمي عبد السلام عن الأصول الأسطورية لعلاقة الختان بالإنجاب ،ومنها قصة تسمية ما يقطع من المرأة بالفضلة لخطورتها ،بالإضافة لقطع هذه الفضلة هناك عمليات كثيرة يعتقد فيها المصريون تحد من خطر الجزء المقطوع مثل التمائم السحرية وغسله بصورة خاصة أو مسه بأشياء مختلفة، واستلهاما من أسطورة عروس النيل التي سبق ذكرها في الفصل السّابق يعتقد أنّ من لا تلقى بفضلتها في النّيل لن تنجب على الإطلاق، وبالطّبع يساعد الجهل بعلم التّشريح على سريان وانتشار حجّة و وهم أنّ الختان يسهّل عملية الولادة لأنّ ما يجب إزالته يسدّ الطّريق أمام الجنين، وكما كان القدماء يشكّلون جسد المرأة بإضافة الشّحم والدّهون و " يعلفونها " "لمزيد من التّخن  والربربة" لتصبح كمصارعي السومو فإنّهم يشكّلون جسدها بالكشط والإزالة، وبالطّبع يقف الختان كأشهر هذه الأساليب التي تعبّر عن المزاج الاجتماعي السّادي الذي يهين المرأة. .
     و تمشّيا مع اعتبار الختان وقفة عند مرحلة المجتمع العبودي، فإنّ النجاسة المرتبطة بأعضاء الجسم وتقسيم الجسد إلى مراتب طبقية حسب درجة الطّهارة والنّجاسة، كل هذا من بقايا التّصوّر الإقطاعي للجسم الذي يختلف فيه جسم العبد عن سيده وأيضا أعضاء الجسم الواحد نفسه، ويكفى أنّ الاسم الذي يطلق على الختان هو الطّهارة، وفى السّودان يعتبرون البنت غير المختونة نجسة وإطلاق صفة بنت غير المختونة يعتبر من قبيل الشّتيمة هناك ويشبه شتيمة ابن العاهرة ، والارتباط بين عدم الختان والنّجاسة عند القبائل الأفريقية ارتباط وثيق، فالبعض يرفض الأكل مع غير المختونة، وفى مالي يرفضون مجرّد تحضيرها للأكل، والبعض يعتقد أن في البظر سمّ قاتل ،وفى أوغندا تعبر المرأة غير المختونة بنتاً مهما كان عدد أطفالها، ويعتبر ابنها "ابن بنت " دون أيّة كرامة في جماعته و لا يحظى بأيّ منصب هام، و لا يحقّ لهذه المرأة حلب البقر لأن ذلك يجلب النّحس، كما لا يحقّ لها سكب الماء في الإناء الذي يحتوى ماء الشّرب للعائلة، أو الصّعود إلى المخزن لإحضار الحبوب للطّبخ أو الزّراعة، وإذا مات رجلها لا يحقّ لها استقاء الماء من النّهر أو البئر للذين يدفنون زوجها.
إن مفاهيم النجاسة المرتبطة بعبادة الطوطم، ومفاهيم إنسان الكهف الأول الذي كان لا يستطيع فهم الظواهر المحيطة به، فينسج حولها الأساطير ومنها أسطورة النّجاسة، وخاصة بالمكان الذي ينزل منه دم الحيض المفاجئ الذي وضعه هذا الإنسان في خانة النّجاسة كحلّ منقذ لعقله القاصر .
    السّحر وطقوسه وتدريباته عنصر أساسي من عناصر تكوين المجتمع العبودي، وقد جمعت ال"بولتين " عدد ديسمبر 1991 بعض هذه الطّقوس الأفريقية الغريبة التي تنقلنا فورا لجوّ المجتمع القبلي الذي يفتقر لأبسط بديهيات المنهج العلمي في التفكير و تفسير الظّواهر ، ويحدّد السّاحر مكان التّدريب على طقوس احتفالات الختان من غناء ورقص ،وتتسابق الفتيات فيه للبحث عن الشجرة المقدسة ومن تجدها هي التي تتلقى أكثر طلبات زواج ،وفى قبيلة "ناندى " عشية إجراء الختان تشعل النار المقدسة قرب شجرة مخصوصة، وتقوم الخاتنة بفرك مكان الختان بنبات لاسع حتى ينتفخ المكان ،ثم يتم الكي بقبس من النّار وسط غناء ورقص القبيلة ،وفى قبائل "أوبانجى " يحظر دخول المكان على الرجال إلا زوج الخاتنة العجوز الذي يسيطر على الفتاة بعنف فاتحاً فخذيها فى نفس الوقت الذي يلهب ظهرها فيه سوط تمسك به امرأة من القبيلة ،وبعدها يتم جزّ البظر بالسّكّين ،وتقف البنات في طابور تحرسهم زغاريد القبيلة ،وعلى من تنهى عملية الختان أن ترقص رقصة اللقاء الجنسي و الدم ينزف منها ،وفى توجو ينتهي طقس الختان بسير الفتيات عاريات في موكب حتى يصلن إلى التّمثال المقدّس، و في دولة بنين تجلس الفتيات على حجر مسطّح على شكل دائرة و وجوههنّ إلى الخارج، و تجلس الخاتنة وسط الدّائرة وتلف الحجر حتّى تواجه البنت وتجرى لها الختان ،ثم تلفه لكي تختن الفتاة التالية و هكذا ....،كل ما سبق له ظلاله الدينية في معتقداتهم، وهو شبه امتحان تجريه القبيلة للبنت ،وهذا الإحساس بالامتحان انتقل إلي مجتمعنا المصري حيث نعقد امتحانات دورية للبنت في الأخلاق بالطبع التي هي أخلاق من وجهة نظرنا تحمل خاتمنا الخاص وبصمتنا المميزة،إن الفرق بيننا وبينهم إنهم يجرون الختان بصراحة وتحت غطاء السحر ونحن نجريها بنفاق وتحت غطاء الدين .

   العبودية ليست تعريفا زمنيا و لا مكانيا ولكنها مجموعة قيم أخلاقية معينة، ونظرة خاصة متزمتة ،ونسق سلوكي يهتم بالحفاظ على المظهر الخارجى ،و أرتيكاريا شديدة من أي شيء يمسّ ممتلكات السّيد ومنها المرأة ،بدليل أن هذا الختان البربرى وصل إلى أوروبا عندما سيطر عليها إحساس الطّهر "البيورتانى " فى العصر الفيكتورى المتزمت المتخلف الذي صاحبه تخلّف طبّي أيضا ،و قد ساعد هذا المركّب المتخلّف المزدوج على تبنى عادة الختان و قد ساعد على انتشارها بعض التّفسيرات الطّبية التى تربط بين الأمراض العقلية والعصبية الّتى تصيب النّساء وبين أعضائهن التّناسلية ،والتي تدين المرأة لأنها أسيرة طبيعتها البيولوجية المتقلبة من حمل وإرضاع وولادة وحيض ..الخ ،مما يؤدى من وجهة نظر أصحاب هذه التفسيرات لخفض قدرتها الذهنية وانهيار إرادتها الواعية وفقدها للقدرة على التحكم في نفسها ،وفى كتاب "موقف الأطباء من ختان الإناث" تقص مؤلفتا الكتاب آمال عبد الهادي وسهام عبد السلام قصة غزو ختان النساء لأوروبا إبان العصر الفيكتورى ،ففي سنة 1858 أدخل د.إسحق بيكر براون ختان النساء لبريطانيا كوسيلة علاجية للأمراض البدنية والعقلية التي كان يعتقد أنها تصيب النساء بسبّب تعرضهنّ للإثارة الجنسية، وللعلاج "مارس د.براون استئصال البظر و الشّفرين الصّغيرين كعلاج لهذه الأمراض بل وأحياناً المشاكل الاجتماعية كالطّلاق !،وكان يتباهى بأنه يخدرهن تخديراً كلياً " ،وقد أدت التجاوزات المهنية للدكتور براون إلى تجريده من ألقابه العلمية وفصله من عمله ،وفى سنة 1867 نشرت المجلة الطبية البريطانية خطاباً هاماً يوضح أسباب رفض المجتمع الطبّي لممارسات د.براون ،يقول الخطاب " نحن معشر الأطباء حماة مصالح النساء بل و رعاة شرفهن ،والحقّ إنّنا نحن الطرف الأقوى و هنّ الطّرف الضّعيف،فهنّ مجبرات على تصديق كل ما نقوله لهنّ لأنّهن لسن في وضع يسمح لهن بمجادلتنا ،لذا يمكن القول بأنهن يقعن تحت رحمتنا ،وفى ظل هذه الظروف لو تخلينا عن التمسك بمبادئ الشرف وخدعنا مريضاتنا أو ألحقنا بهنّ الأذى بأيّ شكل ،فإننا لا نستحق الانتماء إلى مهنتنا النبيلة " ،وأما الأكثر طرافة فهو ما ذكر في كتاب "مشاكل النّساء " لفرنيون كوليمان من أنّ الختان ستخدم لعلاج كثرة عرق الأيدي و للفتيات اللاتي كن يعملن بمصانع النّسيج على آلات الخياطة التي تعمل ببدال القدم ، وكان المبرّر هو أن حركة اهتزاز الفخذين الدائمة و احتكاكهما كانا يولّدان إثارات جنسية لا تحتمل !!،وقد تبنّى البعض فى مصر مثل هذا الرأي أو أشدّ منه في تأييد الختان فقالوا أن تلامس الملابس     و احتكاكها بالبظر من الممكن أن يثير البنت فمن الأفضل ختانها !!.
    وفى ختام هذه القراءة التّاريخية نقول إنّنا بالختان نقول مرحبا بالعبودية ووداعا للحرّية والعقل، و إذا رغبنا فى الخروج من كهف الظّلمة لساحة النّور علينا أن نعترف بأن أجسامنا ملكنا ومصدر فرحتنا وليست وعاء شرورنا و آثامنا ورذيلتنا، و أن نمنع أي بتر عدواني نفعله بها كالختان الذي هو من بقايا العبودية والتي للأسف نحن إليها أحيانا وبكامل إرادتنا .

0/Post a Comment/Comments