مبدأ الحرية في التربية

تشكّل سنوات الحرب العالميّة الأولى في نظر العديد من الدّارسين موعدا حاسما في تجديد النّظرة إلى التّربية. و من مظاهر هذه النّظرة الجديدة اعتبار واضح لحرّيّة الطّلّاب في المدرسة. ليست فكرة الحرّية هذه في الواقع مولودا جديدا و حينيا بل إنّما هي نتائج و امتداد لعوامل عديدة فعلت في المجتمعات بكيفيات مختلفة. إنّ أوّل هذه العوامل انعتاق الطّبقات العمّاليّة حيث برز هنا و هناك توق الشّغّالين إلى التّحرّر من ألوان الظّلم في المزارع و المصانع، و كان لنسيم الحريّة التي هبّت به عالميّا الثّرة الفرنسية دور فعّال في إنعاش حركات العمّال و غيرهم من فئات الشّعوب. و كان ثاني هذه العوامل تحرّر المرأة و حصولها تدريجيّا على مكتسبات جعلتها تفتكّ مراتب مسؤوليات كانت حكرا على الرّجل المتجبّر. و لم يكن هذا بالمر الهيّن بل حصل بفضل نضال مرير خاضه كلّ من الجنسين حيث رفعا شعار المساواة و دافعا عنه بكلّ ثبات. أمّا ثالث هذه المؤثّرات التي ساهمت في إشاعة معاني الحرّية كانت ثورة الشّباب الذين تمرّدوا بحقّ على سلطة الكهول و أعلنوا رفضهم لكلّ اشكال الوصاية و نادوا بحقّهم الطّبيعي في الاحترام. و تبعا لهذا أصبحت الحياة الاجتماعية تشهد علاقات جديدة نلاحظ أنماطها في الأسر و المؤسّسات و كلّ ضروب النّشاط البشري. و يضاف إلى هذه العوامل ذات الصّبغة الفلسفيّة و السّياسيّة و الاجتماعيّة عامل هام له صلة مباشرة بشؤون التّربية ألا وهو الدّراسات البسيكولوجيّة. و تجدر الإشارة بصفة خاصّة في هذا السّياق إلى " الفريد ادلير " ََ A.Alder أحد كبار هذه المدرسة الذي كان له اتصال مكثّف و مباشر مع المربّين حيث كان يشرح لهم أخطار ما ينجم عن شعور الطّفل بالنّقص من انحرافات مناديا بضرورة ربط علاقات مع النّاشئة أساسها المحبّة و الاحترام. هذه جملة من العوامل الأساسيّة التي أدّت – على اختلاف أنواعها – إلى إيجاد ظاهرة الحرّيّة في الممارسات التربويّة خلال العصر الحديث وهو ما سنحاول التّعرّض إليه فيما يلي بشيء من التّفصيل. المدارس التّربويّة: يمكن القول بأنّ الاتّجاه الحديث في التّربية يتمحور حول ثلاثة تصوّرات متكاملة هي حركة " المدرسة النّشيطة " و حركة " الحكم الذّاتي " و حركة " المدارس الحديثة ". أين تبرز الحرّية في كلّ من هذه المحاور العامّة ؟ أ – حركة المدرسة النّشيطة: من المعلوم انّ حركة " المدرسة النّشيطة " التي نسّق بين جهودها عالميّا المربّي المشهور " أدولف فريار " تقوم على ركائز ثابتة هي ركيزة نشاط الطّفل و مفهوم الحاجة و الاهتمام و مبدأ التّعاضد و التّعاون... فسواء كنت مع " ديوي " و " كيلباتريك " في طريقة المشروع أو مع " منتسوري " في وسائلها التعليمية أو مع " دكلوري " في طريقة محوار الاهتمام أو مع " كوزيني " و " كرشنشتاينر " في طريقة العمل ضمن المجموعات ... فإنّك تلمس و بشكل واضح أثر الحرّيّة في أعمال الطّلاب الذين كان المربون يخصّونهم بعلاقات مرنة كأساس ضروري للتّلقائية النشيطة و المنتجة. و لم يأت مبدأ الحرّية في تصوّرات " المدرسة النّشيطة " و انجازاتها عن غير قصد بل كان هدفا مرسوما بوعي تام. فليس لنا أن نستحضر في هذا المجال الضّيق ما قاله المهتمّون بهذه الحركة عن الحرّية كأساس للممارسات التربوية بل حسبنا أن نسوق ما قالته في هذا الشّأن " هيلين باركهرست " مبتكرة طريقة " دالتن ": " الحرّيّة إذن هي أولى المبادئ التي تقوم عليها طريقة " دلتن ". فالطّفل – من النّاحية النّظريّة أو الثّقافيّة – ينبغي أن يترك حرّا لينكبّ على عمله في المادّة التي تستغرق باله و يشغف بها، من غير أن نقطع عليه سلسلة أفكاره. إذن هو في هذه الحال أحدّ ذهنا و أكثر يقظة، و أعظم اقتدارا على تذليل ما قد يلاقيه في دراسته من صعاب. فهذه الطّريقة الجديدة لا تعرف صلصلة الناقوس التي تنتزع التلاميذ في ساعات موقوتة لتقودهم مكبّلين إلى درس جديد و معلّم جديد. إذ أنّ هذا الأسلوب يذهب بطاقة التلاميذ و نشاطهم هباء منثورا، و هذه النّقلات المتعسّفة تبذّر جهودهم شأن الموقد الكهربائي إذا أخذت تحوّل التّيّار إليه و تقطعه عنه حينا فحينا لغير سبب، فالتّلميذ لن يتقن تعلّم شيء إلا إذا سمح له بأن يحصل العلم بسرعته الخاصّة. و الحرّية هي أن تقوم بعملك في الوقت الذي يوافقك، أمّا أن يكون مرتهنا في آدائه بالأوقات التي تلائم غيرك فتلك هي العبوديّة بعينها." ب – حركة " الحكم الذّاتي " : " الحكم الذاتي " أو " التسيير الذاتي " طريقة تتّصل أساسا بمجال التّربية الأخلاقية. كان قد مارسها بنجاح رواد كثيرون في أمريكا و أوروبا، وهي تعني عمليا تشريك الطّلاب في تنظيم حياتهم المدرسيّة. و تبعا لهذا ترى التّلاميذ بواسطة التّعيين أو الانتخاب أو التّطوّع يضطلعون بمسؤوليات السّهر على حسن سير الدّرس: فهذه مجموعة تمثّل الشّرطة و هذه أخرى تمثّل المحكمة و هذه ثالثة للخدمات العامّة... و كلّهم يتعايشون طبقا لقوانين يشارك في ضبطها الجميع من كبار و صغار. و يتّصل بالمنحى الأخلاقي في هذه الطّريقة تصوّر أشمل يضمّ تشريك الطّلاب في تنظيم أنشطة الفصل حيث يساهمون في تنظيم برامج الدّراسة و تحديد أساليب العمل وهو ما يُعرف في التّربيــــة " اللاتسير " المستوحـــاة مــن " كارل روجارس ". و ما يهمّنا أساسا فيما قلناه عن " الحكم الذاتي " كطريقة من طرق التربية الحديثة هو أنّ المتعلّمين في هذا الإطار يتوفّر لديهم قدر هام من الحرّية، وهو ما يظهر بوضوح في كل أسالب النّشاط الخاصّة بهذه الحركة. ج – حركة " المدارس الحديثة " : حركة المدارس الحديثة حركة تخصّ المؤسّسات المدرسية التي تستجيب لمقتضيات التربية العصرية، لكنّها تخضع لشروط معيّنة. كان قد انبعث من اجلها سنة 1902 بجنيف " المكتب العالمي للمدارس الحديثة ". و كان قد أقرّ لها سنة 1912 ثلاثين شرطا كحدّ أدنى من الخاصّيات تستطيع به كلّ مدرسة أن تحمل اسم " المدرسة الحديثة ". و من الشّروط التي تهمّنا في هذا الموضوع الخاص بالحرّية في التّربية نكتفي بذكر الشّرط رقم 8 الذي يدعو إلى ممارسة الأشغال الحرّة، و الشّرط رقم 14 الذي يدعو إلى إقامة التعليم على النّشاط الشّخصي للطّفل و الشّرط رقم 16 الذي يدعو إلى القيام بعمل فردي في البحث. و من مؤيّدات احتضان رواد هذه الحركة لمبدإ الحرّية فيما أسّسوه من مدارس نشير على سبيل المثال إلى أسلوب كان مطبّقا في المدارس التي أسّسها " هرمان ليتز " الألماني أحد كبار باعثي هذه الحركة: كانت تنظّم ما يسمّى بـ" السّهرة الحرّة " وهي عبارة عن اجتماع أسبوعي يضمّ كلّ تلاميذ المدرسة و معلّميها حيث تستعرض الأحداث المعيشة و تحلّل و تقيّم، و لكلّ من الحاضرين الحقّ في إبداء الرّأي كيفما شاء. - المدارس المتطرّفة و من الجدير بالملاحظة و نحن نتحدُّّث عن شيوع اعتبار مبدإ الحريّة في التّربية الحديثة أنّه ثمّة تجارب مدرسيّة تعرف بالتّطرّف في هذا النّطاق: 1- فمحاولة مدارس " هنبورغ " المشهورة التي انطلقت بعد الحرب العالمية الأولى كان قد أقامها روادها على مبدإ علاقات " الرّفقة و المصادقة " بين المعلّم و التّلميذ حيث يمكن للطّلاب أن " ينعموا " بالحرّية المطلقة في كلّ أنشطتهم. و لا غرابة في أمر هذه التّجربة إن هي انتهت بالفشل حيث لم تحقّق الأهداف المرسومة في أذهان أصحابها و المتمثّلة في تولّد الإرادة انطلاقا من العفوية الطّبيعيّة. 2- و من قبيل تجربة " هنبورغ " هذه المتطرّفة في الحرّية، مدرسة " نييل " الكائنة بسومرهيل ( انقلترا ) و التي أسّسها سنة 1921، وهي المدرسة التي لم تنج من انتقادات لاذعة رغم طرافة توجّهها و جرأة صاحبها. إنّها المدرسة التي تعتنق الإباحيّة المطلقة إلى حدّ الفوضى و من ذلك الممارسات الجنسيّة. إنّها اتجاهات تحرّرية تجسّم نقيضا يلوذ به أصحابه فرارا من نقيض نظام القمع في صوره البشعة. و كيف لا تبرز أمثال هذه التّجارب المتطرفة بعد أن عاشت البشرية ويلات الحرب الكبرى و ذاقت مرارة القسوة و العنف؟ فمهما كانت إيجابيات تجربتي " هنبورغ " و " سومرهيل " لا مناص من القول بأنّهما مثالان سلبيان في تصوّرهما للحرّية، لأنّهما يتناقضان مع اعتبارات بسيكولوجيّة و تربوية أصيلة. فمن النّاحية البسيكولوجيّة يؤكّد علماء النّفس – على اختلاف اتّجاهاتهم – على أنّ الطّفل – توقا إلى سنّ الرّشد – في حاجة ماسة إلى ركيزة ينزع إليها كمثل أعلى وهي الصّورة التي يجب أن يجدها في أبيه و في معلّمه. لكن كيف يستقيم الأمر لإشباع هذه الحاجة النفسية لدى النّاشئة مع كهول مربين لا يشيعون من حولهم الاحترام و التّقدير؟ أمّا من النّاحية التّربوية فدور المدرسة – كمؤسّسة اجتماعية – يقتضي حتما تحقيق نتائج وهو يفترض ضبط أهداف و اتّباع تخطيط. لكن كيف يتسنّى للمدرسة القيام بواجبها الاجتماعي النبيل في ظروف طلابية تسودها التّلقائيّة المطلقة و تفتقر إلى أبسط مظاهر الانضباط ؟ فالحكمة التّربوية تقتضي إذن أن نرفض كلا من الحرية المطلقة و السّلطة الجافّة و للمربّين في الموقف الوسط – وخير المور أوسطها – الدّليل الأفضل وهو ما اهتدى و عمل به كبار المربّين في كلّ حركات التّربية الحديثة.
---------------------------------------
المؤلّف: البشير الهاشمي 
المصدر: منهل *مختصرات في علم النفس والتربية، قابس، تونس، 1994 ص.ص. 15- 18.

0/Post a Comment/Comments