دور البلديات التّونسية في تحقيق التّنمية المستدامة



  

 أسفرت التّجارب الدّيمقراطيّة المقارنة حول اللامركزيّة و السّلطة المحلّية بأنّها نظام للحكم الجيّد تعيد الثّقة في السّياسات الحكومية و تجعل من المواطن العادي في قلب اهتماماتها باعتبارها شكل من أشكال التّدبير المشترك للشّأن العام المحلّي يتأسّس على تقوية و زيادة انخراط و مشاركة المواطنين في النّقاش العمومي و في رسم السّياسات العامّة من أجل تحقيق التّنمية المحلّية المستدامة.
و في هذا النّقاش طرح بعض الأصدقاء الإشكاليات التّالية:
- ما هو دور السّلطة المحلّية مستقبلا في تحقيق التّنمية المستدامة؟

تعريف السّلطة المحلّية في تونس:
يمكن تعريف الحكم المحلّي بأنّه الدّيمقراطيّة التي تمارس على مستوى محلّي و من هيكل محلّي لتسيير الشّأن العام فالدّيمقراطية المحلّية تعني في المقام الوّل أن يعهد للجماعات المحلّية بتصريف شؤونها باستقلالية في إطار دولة موحّدة. و قد تكرّس هذا الأمر بموجب الدّستور التّونسي بما فرض مراجعة المنظومة القانونية في جزئها المتعلّق بالجماعات المحلّية على المستوى الإداري و المالي.
لقد وضع الدّستور الصّادر في 27 جانفي 2014 أسس السّلطة المحلّية من خلال تأصيل اللامركزية و تكريسها بالتّنصيص عليها في باب المبادئ العامّة ( الفصل 14 ) و تخصيص الباب السّابع للسّلطة المحلّية الذّي يتضمّن 12 فصلا تعلّقت بسبل تأهيل الجماعات المحلّية ( بلديات، جهات، أقاليم ) على مستوى الاختصاصات و الموارد بشكل يمكّن من تحقيق الدّيمقراطية و التّنمية المحلّية و تقليص الفجوة بين جهات البلاد، وهو ما يقطع مع خيار دستور 01 جوان 1959 حيث كان الباب المتعلّق بالجماعات المحلّية متضمّنا فصلا وحيدا ( الفصل 71 ) مع عدم تنصيصه صراحة على مفهومي اللامركزيّة و الدّيمقراطيّة المحلّية وهو ما ساهم في تركيز هياكل لامركزية ( بلديات و مجالس جهوية ) ضعيفة على مستوى الصّلاحيات و الموارد و تابعة للسّلطة المركزيّة من خلال إخضاعها لرقابة إشراف موسّعة وفق قانون 1975 المتعلّق بالبلديات و قانون 1989 المتعلّق بالمجالس الجهوية.
و لكن الإقرار بهيئات الحكم المحلّي على صورتها الجديدة وفق اللامركزية، يمكن ان يظلّ حبرا على ورق ما لم يعهد لهذه الهيئات بصلاحيات تصرّف حقيقية لتجسّم سلطتها. 
وفق ما أقرّه الفصل 134 من الدّستور "تتمتّع الجماعات المحلّية بصلاحيات ذاتية و صلاحيات مشتركة مع السّلطة المركزية و صلاحيات منقولة منه". و توزّع الصّلاحيات المشتركة و الصّلاحيات المنقولة استنادا إلى مبدإ التّفريع ... صلاحيات و مبادئ و مفاهيم حديثة تؤسس لتوجّه مبني على سياسات القرب في ظلّ حكم منتظر يعتمد المقاربة التّشاركية و مبادئ الحوكمة و الشّفافية.

مهام البلديّة قبل انتخابات ماي 2018:
تختصّ البلديّة و مجلسها المسيّر المنتخب كما جاء في القانون الأساسي للبلديات عدد 33 لسنة 1975 مؤرّخ في 14 ماي 1975 بتنقيحاته المختلفة بالتّصرّف في الشّؤون البلدية، و يساهم في نطاق المخطّط الوطني للتّنمية في النّهوض بالمنطقة اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا، و يدرس ميزانية البلدية و يوافق عليها، و يضبط في حدود مداخيل البلدية و الإمكانيات الموضوعة تحت تصرّفها برنامج تجهيز البلدية، و يضبط مختلف الأعمال التي يتعيّن القيام بها للمساعدة على تنمية المنطقة.
و لكن تبقى وظيفة البلدية في نظر المواطن التّونسي بخلاف توجّهه لإصدار الوثائق الرّسمية، تتلخّص في نعهّد و إصلاح و بناء الطّرقات و أرصفنها و المنتزهات و النّباتات و الحدائق و البساتين و توابعها و مرافقها مع رفع الفضلات المنزلية و فرزها و معالجتها و إزالتها و ردمها في مصبّات مراقبة و أشغال التّطهير على اختلاف أنواعها...
بالإضافة لتنوير الطّرقات و السّحات العمومية و مؤسّسات البلدية و رسم أسماء الأنهج و السّاحات و أرقام المنازل و مختلف المحلّات و كلّ ما يتعلّق بتنفيذ مثال التّهيئة و التّصفيفات و البناءات الخاصّة و المباني المتداعية للسّقوط.
إجمالا كانت المجالس البلدية صورية لا تعبّر عن اختيارات و حاجيات المواطنين و بصلاحيات مفرغة و دون سلطات حقيقية بل أنّ مسؤولياتها وظيفية محدودة أمام سياسة مركزية و خيارات سلطة تجمع كلّ الصّلاحيات و تحتكر صناعة القرارات السّياسية و الخيارات الاقتصادية و المخطّطات التّنموية للبلاد كافّة.

مفهوم التّنمية المستدامة:
ظهر مصطلح التّنمية المستدامة لأوّل مرّة في منشور أصدره الاتّحاد الدّولي من أجل حماية البيئة سنة 1980، لكن تداوله على نطاق واسع لم يحصل إلا بعد أن أعيد استخدامه في تقرير "مستقبلنا المشترك" المعروف باسم "تقرير بروتلاند"، و الذي صدر سنة 1987 عن اللّجنة العالمية للبيئة و التّنمية التّابعة لمنظمّة الأمم المتّحدة، تحت إشراف رئيسة وزراء النرويج  آنذاك غرو هارلم بروتلاند.
و قد عرّف التّقرير التّنمية المستدامة بأنّها "التّنمية التي تستجيب لحاجيات الحاضر دون أن تعرّض للخطر قدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها".
و يرّكز هذا التّعريف ضمنيا على فكرتين محوريتين هما: فكرة الحاجيات، و خصوصا الحاجيات الأساسية للفئات الاجتماعية الأكثر فقرا التي تستحقّ أن تولى أهمّية كبرى، و فكرة محدودية قدرة البيئة على الاستجابة للحاجيات الحالية و المستقبلية للبشرية، في ظلّ أنماط الإنتاج و الاستهلاك السّائدة و التّقنيات المتوفّرة.
إنّ التّنمية المستدامة هي في حقيقتها تنمية شاملة الأبعاد الانسانية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثّقافية، لا سيّما و أنّ الهدف الأسمى لها يتمثّل في رفع مستوى حياة المواطنين، و الحدّ من فجوة الثّروة و الدّخل بين مختلف الفئات و الطّبقات الاجتماعية، و بين مختلف الجهات و المناطق داخل البلد الواحد، فضلا عن تحسين مستوى المعيشة و الحياة.
يُفترض أن تتضمّن التّنمية المستدامة في تونس بناء منوال تنموي جديد، تلعب فيه مؤسّسات الدّولة و الجماعات المحلّية دورا محوريا من أجل إنشاء بنية تحتية أساسيّة على الصّعيدين الاقتصادي و الاجتماعي.

دور البلديات في تحقيق التّنمية المحلّية المستدامة:
تلعب البلديات دورا بارزا في تحقيق التّنمية المستدامة و المساهمة في التّطوّر الاجتماعي وهو الأمر الدّي أثبتته العديد من التّجارب المقارنة في العديد من الدّول التي تُعتبر نموذجا ناجحا في هذا المجال، و ذلك لاعتبار البلديّة الخليّة اللامركزية و التي تكون على قرب كاف من المواطن من السّلطة المركزية و بالتّالي فهي تملك القدرة الكافية على معرفة متطلّبات المواطنين، انشغالاتهم و احتياجاتهم هذا من جهة، و من جهة أخرى معرفة خصوصيات و مميّزات الجهة و بالتّالي معرفة كيفية الاستغلال و التّعامل مع هذه المناطق كلّ حسب خصوصيته وه ما ينتج عن القدرة على الاستجابة لمتطلّبات المواطنين و توفير الخدمات و من ثمذ تحقيق التّنمية المحلّية التي ستنعكس حتما على المستوى الوطني و تكون عاملا في تحقيق التّنمية المستدامة الشّاملة.
سيكون للمؤسذسة البلدية دورا حيويا من خلال توفير مختلف المرافق الاجتماعية الضّرورية و توفير مختلف الخدمات  و المتطلّبات الاجتماعية التي يحتاجها الفرد من سكن و صحّة و تشعيل و مؤسّسات تعليمية و ثقافية و ترفيهية، و السّهر على حوكمة تيسيرها.
أمّا اقتصاديا فإضافة إلى حسن تسيير المؤسّسات الاقتصادية المحلّية (كالسواق و المحلّات التّجارية و المناطق الجرفية ...) فستعهد البلديات بناء و صيانة و التّصرّف في المناطق الصّناعية ممّا سيساهم في تطوير المشاريع الاستثمارية و الاهتمام بالصّناعات المحلّية، و توفير مواطن الشّغل.
أملنا أن تكون التّجربة التّونسية الجديدة في متناول السّكّان فعلا، و أن تمنحهم فرصا حقيقية لتوسيع مجالات المشاركة المجتمعية في صنع القرار المحلّي في إطار الدّيمقراطية التّشاركيّة، و من خلال المهام التّي ستقوم بها المجالس البلدية و الصّلاحيات المخوّلة لها لبلوغ أهمّية كبيرة في تحقيق التّنمية المستدامة على المستوى المحلّي نتيجة ربط قضايا التّنمية المحلّية ببعديها الاقتصادي و الاجتماعي بالبيئة.
رهان كبير و جدّي أمام البلدية في تحقيق التّنمية المستدامة من خلال توسيع فرص المشاركة في وضع الخطط و الكشف عن متطلّبات المجتمع المحلّي و ممارسة الحوكمة، إضافة إلى إدارة الموارد المحلّية و ترشيدها في ظلّ ممارسسة نشاط اقتصادي محلّي يحترم قدرات البيئة، و توفير المتطلّبات الضّرورية للمواطن، و حماية البيئة محلّيا في حدود الصّلاحيات المحدّدة لمهامها.
-------------------------
بقلم: عصام الدّين الرّاجحي



0/Post a Comment/Comments