الشّدائد محكّ الأصدقاء

الصّديق الوفيّ نعمة كبرى من نعم الحياة، فمن آتاه الحظّ صديقا وفيّا مخلصا قد أوتي خيرا كثيرا، و لا نغالي إذا قلنا أنّ الصّديق الصّدوق كنز ثمين من الصّعب الحصول عليه. إنّ الصّديق الوفيّ هو في كثير من الأحيان خير من الأخ الشّقيق، فهو عُدّة في الشّدّة و قبس هداية في حلكة الأيّام، و أنس في الوحشة و معين في الكربة. و الصّداقة لا تكون خالصة إلا إذا خلت من شوائب الأنانيّة، و كانت في واقعها فيضا من إخلاص و تضحية. إذ أنّ الصّديق الوفيّ يسوءه ما يسوء صديقه و يسرّ ما يسرّه و لا معنى للصّداقة إذا لم ينبض القلب بشعور الألم المبرح عندما يصاب الصّديق بما يؤلم و يسيء. و الشّدائد محكّ الإخاء، فالصّديق الوفيّ لا يُعْرَفُ إلا في الشّدّة و لا يُخْتَبَرُ إلا في الحاجة، و لقد قال الشّاعر قديما: جزى الله الشّدائد كلّ خير ** عرفت بها عدوّي من صديقي فإذا كان المرْْء في نعمة تهافت عليه الأصدقاء من كلّ حدب و صوب، بل قد ينقلب العدوّ صديقا، إذا لمح طراوة النّعمة و آثار الخير و الثّروة تبدو عليك، و ربّ مخلوق ما كنت تعرف أيّ صلة من قرابة أو نسب تربط بينكما فإذا به فجأة يصبح من أقرب المقرّبين إليك، بل ربّما ادّعى أنّه أقـرب إليـك مـن أخيـك لأمّـك و أبيـك، و يحلف بالإيمان المغلظة أنّه كان ينوي توثيق أواصر القرابة من زمن وأنّه... و قد يقِلّ مالُك بحادث من حوادث الدّهر، أو قد تملق فتلتفت حولك باحثا عن هؤلاء الأصدقاء ( الأوفياء ) فلا تجد لهم أثرا. أين الوفاء؟ أين الإخلاص؟ أين الحبّ المبرح؟ أين الشّوق المقيم؟ لقد تلاشى كلّ ذلك و ذاب بين عشيّة و ضحاها، إذ يعد لديك نفع يعود عليهم و لا جاه يرجون استغلاله و صدق الشّاعر القائل: إذا قلّ مال المرء أقصاه أهله ** و أعرض عنه كلّ إلْفٍ و صاحب و هذا واقعنا بكلّ ما فيه من حقيقة مؤلمة، نعم إذا قلّ مال المرء أو نضب أو ذهبت به كارثة من كوارث الدّهر، تفرّق عنه هؤلاء الّذين كانوا حوله، فلا يبقى إلى جانبه أحد، بل قد تجور عليه الأيّام فينصرف عنه أقرب المقرّبين إليه دون ذنب جناه سوى ما حال به من فاقة و عــوز، و قد يكون في غالب الأحيان قد أضاع ماله على أولئك الّذين كانوا ألصق به من ظلّه بالأمس. إنّ أشباه هؤلاء الأصدقاء مزيّفون لا شرف لهم و لا ضمير. و يتفاقم الخطْب حين ينقلب هذا الصّديق فيصبح عدوّا لدودا بعد أن يكون قد حرم المنفعة الّتي كان يجنيها من صديقه، و هنا الطّامّة الكبرى، فالصّديق حين ينقلب إلى عدوّ يغدو من أفتك الأعداء، فهو يعرف في الغالب مواطن الطّعن في صديقه و ثغرات الوهن فيه، فيعظم أذاه و يشتدّ بلاؤه. احذر عدوّك مـرّة ** و احذر صديقك ألف مرّة ربّما انقلب الصّديق ** فكان أعلم بالمضـــرّة و صفوة القول، لقد قلّ المخلصون و كثر المتملّقون المنافقون، و لم يعد أثر للوفاء في صفوف الأصدقاء، و راجت تجارة الملق و الرّياء، فعلى المرء أن يكون يقظا حين يرسي اعتماده على أصدقائه، و ليعلم أنّ الصّديق الحقّ من إذا قال صدق، و إذا دعي لبّى، و الصّداقة الباقية هي الّتي تسمو عن المنافع الذّاتية، هي التي لا تزعزعها الأيّام و لا تؤثّر فيها الحوادث، و لا يضعفهـا تقلّـب الأحـوال، و لا فَقْد الثّروة و المال.

0/Post a Comment/Comments