إهمال المطالعة جناية على الثّقافة


" و خير جليس في النام كتاب " ( المتنبي ) - لأي شيء نعزو إعراض الشّباب عن المطالعة بعد انتهاء الدّراسة؟ - هل ماتت الرّغبة في المطالعة؟ هل ضّنّت المطابع بإنتاج الكتب النّافعة؟ - هل بخلت العبقريات بما تجود به عادة؟ إنّي لا أرى العلّة هنا... و لكنّي أراها في هذا التّقاعس عن معاشرة أرقى العقول تفكيرا و أصفى الأرواح تهذيبا في العصور السّابقة. على أنّ الثّقافة الصّحيحة المتينة لا تنبت في بطون الكتب المدرسيّة، لأنّ هذه الكتب محدودة الأجواء، ضيّقة الآفاق، و إنّما مهمّتها أن تكون مهمّة الدّليل الأمين، و ليس لها مهمّة التّفتّح و الانطلاق، ثمّ تتحوّل في آخر السّنة الدّراسيّة إلى قراطيس عند بائع للفواكه الجافّة الّذي تستوي عنده جميع العلوم و المعارف. إنّ التّعوّد على تذوّق المطالعة هو الوثبة الولى نحو تفتّح العقل و النّفس. حقّا، أنّ الحياة وجيزة، و عمر الإنسان ومضة قصيرة، لكن هذه الومضة، بما أوتيت من وهج ساطع، تستطيع أن تكشف للعين عوالم شتّى بعيدة، و أن تفتح للرّوح آفاقا متراميّة...مُل هذه الومضة الّتي يشعلها الكتاب الذي يغور في أعماق الماضي فيحييها، و يلمّ بمشاكل الحاضر فيجمعها، و يطلّ على كوامن المستقبل فيكشفها. و ما هو الإنسان إذا لم يوسّع في حياته معنى حياته؟ راح أحدهم مرّة يغبط أمامي رجلا على أنّه سعيد في الحياة، فسألته: - هل يقرأ هذا السّعيد؟ هل يتذوّق الفنّ؟... قال: لا فأجبته: " إنّه سعيد جدير بالشّفقة، لأنّه حجب عن نفسه عالما مكتظّا بمغامرات الأخطار، و ما هي السّعادة الّتي لا تجعل العالم ملك يديك و عقلك و روحك؟ الكتاب إذا حاجة معنويّة ضروريّة في الحياة، و لكن كم هم أولئك الّذين يشعرون بهذه الحاجة، و كم هؤلاء الذين إذا لاح لهم فراغ في أوقاتهم ملؤوا هذا الفراغ بالكتاب؟ رحم الله الأقدمين الّذين كانوا يقدّسون الكتاب، و يتبعونه من بلد إلى آخر ليمتعوا عقولهم و أرواحهم به، و رحم الله الجاحظ الّذي مجّد الكتاب، و جعله ذلك الوعاء الذي ملئ علما و حكمة و موعظة. و الحقّ أنّ الكتاب هو ملتقى تلك الوجوه العريقة، و مجمع الفكار النّبيلة، و عالم تلك الشّخصيات السّاميّة التي تجلس إليها، في أوج رفعتها، و ترفعها عن التّفاهة. و الآن أيّ مطالع تريد أن تكون؟ هناك المطالع الّذي يقبل على المطالعة في وقت لا يجد مسلّيا غيرها، يجد في المطالعة لذّته، لأنّها ترفعه عن عالمه الواقعي، و تغرقه في عالم خيالي، و أمثال هذا المطالع لا يبحثون عن لذّة خاصّة في المطالعة، يقرؤون كلّ شيء، و كلّ شيء عندهم صالح للمطالعة، إنّهم لا يجدون ما يمنعهم عن فتح المعاجم ليطالعوا ألفاظا...مجرّد ألفاظ. إذا ألفوا أنفسهم في غرفة وثبوا إلى الصّحف و المجلّات، يلتهمون ما فيها بلذّة أو بدون لذّة، لأنّهم لا يبحثون عن أفكار تنفعهم، و إنّما يبحثون عمّا يملأ فراغهم، فالمطالعة عندهم عمل من لا عمل له. و هناك المطالع طلبا للذّة الشّخصيّة، يقرأ رواية ما ليستمتع بمشاهد الجمال فيها، أو ليطبّق عواطف أبطالها على عواطفه، أو ليبحث عن صورة لنفسه فيها... و أخيرا يقرأ لأنّ ما يقرؤه يعكس صورة مجرّدة عن قلق الإنسان و متاعبه في هذه الحياة التي لا ينتهي قلقه و لا متاعبه فيها، و هذا لون من ألوان المطالعة الصّافيّة. و هناك المطالع من يطالع مطالعة مفيدة، يتوخّى منها صاحبها أن يلتقط معارف جديدة، و يكشف ألوانا جديدة من عقول جديدة، فهو يرى فيها سببا لتنمية عقله و توسيع ثقافته، و هذه هي المطالعة النّافعة. على انّ من شروط المطالعة النّافعة: - أن تتهافت على مؤلّفين مختلفي الثّقافة، و مواضيع متنوّعة، لتهدي بعد ذلك إلى من تحبّ و ما تحبّ، فإن لم تجد هنا الصّديق الأفضل وجدته هناك، و عندما تقع عليه تزداد حياتك به غنى و لذّة. - و أن تكثر الاتّصال بأدباء عصرك نفسه، لأنّ بينك و بينهم مشاركة في العواطف و وحدة في الغايات، على أنّ هناك أدباء اختارتهم العصور الغابرة و خلّدتهم، فلنضع ثقتنا فيهم، لأنّ ذوق العصور قلّما يخطئ، و قلّما خلّدت العصور من لا يستحقّ الخلود. - و ان تحسن اختيار غذاءك العقلي، إذ لكلّ عقل غذاؤه الخاصّ به، و الملائم لهواه. فلنبحث فيما نطالعه عن أقرب النّاس إلى أنفسنا و عقولنا. - و أن تكون جادّا حين تطالع، دون ان تتوهّم أنّك تقتل فراغا، أو تنتظر صديقا، أو موعدا مع السّينما، إذا فالمطالع الحقيقيّ من يواصل اللّيالي يجدّ في مطالعة أثر يهواه. - و أن تجد في المطالعة مساعدا لك على تكوين شخصيّتك، لأنّ المطالعة حياة ثانية لا تقلّ خطرا عن قيمة الحياة نفسها. كن مطالعا على أيّة صورة أحببت، و لا تترك عقلك معطّلا من المطالعة، لأنّ المطالعة وحدها - سواء أكنت على مقاعد الذّراسة أو خالصا منها - تصلك بالعالم و تطوّره و تقدّمه، فإذا أهملتها انقطعت عن الرّكب الحيّ، و وقفت حيث أنت، جامدا بليدا. و لا أخالك أن تحبّ أن تكون في الحياة جامدا بليدا.

0/Post a Comment/Comments