طفح الكيل هل استسلم رئيس الدولة لأصحاب السيناريو المصري؟


إن الاستفزازات المتكررة الهادفة إلى تلهية الشعب عن أهداف ثورة الحرية والكرامة بمحاولة جر الإسلاميين إلى المعارك الجانبية من الحيل الساذجة التي لم تعد تنطلي على أحد.
فالحرية الدينية واستقلال مؤسساتها ورجالاتها أمر لا يعنيهم وحدهم بل هي مطالب الشعب كله بصرف النظر عن الانتساب الحزبي.
وهي لا تعني الشعب لذاتها فحسب بل لأن العدوان عليها هدفه التلهية عن الفشل الذريع الذي كذب كل الوعود الانتخابية. فلا شيء منها تحقق بعد سنة كاملة من التسويف والتجديف.
لن أكتب مرة ثانية لرئيس الدولة. فلعله لم يعد مسيطرا على الأحداث -في حزبه وفي الدولة- لأن ما يجري لا يمكن أن يناسب قصد من يريد أن ينهي حياته بعمل يخلده التاريخ خاصة إذا كان يريد أن يقاس بمن يقدم نفسه وريثا له.
ذلك أن ما يجري الآن يجعل تونس تنكص منذ الانتخابات الأخيرة إلى ما هو أسوأ من أواخر نظام بورقيبة وأشد خطرا من أواخر نظام ابن علي.
فما يجري يثبت بصورة لا نزاع فيها عودة النظام القديم بعلاقة مقلوبة بين مكونيه -اليسار الاستئصالي الذي كان تابعا للتجمع فصار متبوعا على الأقل في مستوى القيادة.
لذلك فقد عادت ممارسات إرهاب الدولة بصورة سريعة ودون حتى انتظار الاستقرار واستئناف المجتمع لنشاطه العادي وقبل أن تتوقف مرحلة ردات فعل الزلزال الثوري.
والعلة بينة. فالاستئصاليون يعلمون أنهم بحاجة لرئيس الدولة ولكن لزمن قصير قبل أن يرتب أمر الحزب والدولة فيحسم في شروط الوحدة الوطنية التي تقتضي استبعادهم كما استبعد التطرف المقابل.
لذلك فهم يستعجلون الحسم ويدفعون دفعا للحل بالطريقة المصرية قبل أن تفلت منهم الأمور بسبب معركة الخلافة في رأس الحزب الحاكم والدولة.
والمعلوم أني قد سبق فكتبت رسالة مفتوحة للرئيس.
وقد فهمت من كلامه أنه استصوب الكثير مما ورد فيها.
لكن الأحداث بعد ذلك تسارعت وهي تؤكد العكس تماما : لم يعد الجماعة قانعين بعزل الأيمة صاروا يلفقون لهم التهم لسجنهم وربما لتعذيبهم لاحقا.
فلا يمكن أن يكون الرئيس بحق ناويا تدارك الأمر قبل أن يستفحل ثم يترك العبث الذي نراه جاريا في سياسة الدولة الدينية التي نكصت إلى مناخ ما بعد انتخابات 1989.
وأريد هنا أن أشير إلى أن وزارة الشؤون الدينية لا حول لها ولا قوة بل أكثر من ذلك فإني أعتقد أن رئاسة الحكومة نفسها لا حول لها ولا قوة وأن من يوجدون في واجهة الحكم ليسوا إلا مجرد أدوات تنفيذ لاستفزاز يهدف إلى تحقيق غايتين :
1.     الأولى التلهية عن الفشل الذريع في المجال الاقتصادي والاجتماعي والحقوقي وخاصة في تناسق عمل الحكومة التي ليس لها قيادة قادرة على القرار الحاسم لتعدد مراكز النفوذ وعجز مكوناتها عن وضع برنامج موحد.
2.     الثانية حسم الخلاف على الخلافة في الحزب مرقاة للحسم في رئاسة الدولة واطلاق اليد في سياسة الحكومة مع القصد البين بتوريط النهضة والإسلاميين في معركة لعلها تمكنهم من الحصول على التأييد الغربي.
لذلك فإني مرة أخرى انتظر من رئيس الدولة أن يتدارك الأمر قبل فوات الأوان.
فكل ما يجري سيحسب عليه هو دون سواه.
وهو يعلم أن الهروب من المسؤولية بدعوى احترام الدستور وعدم التدخل في فوضى حزبه وفي فوضى الدولة التي صارت مؤلفة من اقطاعيات تتصارع ليس من الحكمة.
فالأمر قد يذهب إلى انفراط عقد جهازي الحماية فتتقاسمهما الاقطاعيات المتصارعة: الأمن والجيش.
فبين أن الاستئصاليين الذين اصبحوا يوظفون قوة الدولة والقانون لتحقيق أهداف غير شرعية (مثل اتهام الأيمة النزهاء وسجنهم) ومسابقة الزمن ينوون تخريب خطي الدفاع الأخيرين أمام الحل المصري في البلاد.
ولا أشك في أن الرئيس يدرك أن عزل الأيمة وسجن أفاضلهم وغلق المساجد والكتاتيب سيعيد تونس إلى ما هو أسوأ مما آلت إليه في نظام ابن علي.
فالموجة الموالية من الثورة ستكون ردا مزلزلا لهؤلاء المفسدين الذين يريدون أن يشوهوا التجربة التونسية
وسيكتب التاريخ أنك قد أنهيت عمرك البايولوجي والسياسي بالسكوت عن جريمة ترى حبكتها ترسم أمام ناظريك.
فإذا كنت عاجزا عن التصدي فكن على الأقل نزيها وخاطب الشعب بالحقيقة قبل أن تنفجر الأوضاع.
ولعل الشباب بجنسيه لن يصبر أكثر مما صبر ولن يقبل بانتظار جودوا لتتحقق أهداف ثورته ولن يلهيه مجرمو الاستئصال بل هو الذي سيختار استئصالهم إن لم يرتدعوا من تلقاء أنفسهم أو من قبل الدولة التي اصبحت لعبة في أيديهم يوظفون القانون والأمن لتشويه أفضل أبناء الوطن.
وأخيرا فقد سبق أن بينت أن مفهوم هيبة الدولة لا يناسب الدولة التي تسعى إليها الثورة بل هو ما تمت الثورة عليه.
ذلك المفهوم المناسب هو مهابة الدولة لا هيبتها وخاصة “تهييب” من يوظفونها لإفساد شروط السلم المدنية:
لن يخافهم أحد فالشعب تجاوز كل خوف للمطالبة بحقوقه وخاصة باحترام حرياته وكرامته وأولها حرياته الدينية..
لا يعقل أن تصبح الدولة التي تتكلم على تحييد المساجد تفرض سياسة دينية تمثل من لا يؤمن بأي دين.
ثم إذا كانت الدولة بحق تدعي أن لها وزارة شؤون دينية فلم لا تتدخل في الكنائس والكنس؟ ألأن الكنائس والبيع لها رب أرضي يحميها؟
نحن نريد مهابة الدولة لا هيبتها.
ولا شك أن أن مادة الكلمة -الهيبة والمهابة- واحدة لكن الفرق بين الدلالتين فرق جوهري.
ذلك أن الهيبة على الأقل في أذهان جاعليها شعارا تقدم القوة على الشرعية.
وغالبا ما يكونوا ممن يهمل الشرعية ولا يعتد إلا بالقوة.
ولو رد عليهم خصومهم بنفس المنطق لكان وضعهم عند حدهم مسألة يوم أو يومين.
لكن الثورة تهدف إلى العكس تماما :
إنها تريد سلطان القانون العادل والمساوي بين الجميع في المواطنة حقوقا وواجبات.
شباب الثورة بجنسيه يريد تقديم الشرعية على القوة دون أن يهمل الحاجة القوة عند الضرورة.
ولن تكون قوة دون شرعية لأنها ستكون مستندة إلى الشرعية الثورية التي تصورنا أن الجميع فهم خيارها: الحلول السلمية.
والبادئ أظلم .
-------------------------
بقلم أبو يعرب المرزوقي


0/Post a Comment/Comments