رسالة إلى السّيّد الرّئيس

إلى الدكتور محمد المنصف المرزوقي


سدي الرئيس :
ترجّل عن حصانك .. و استرح قليلا...و توارى عن الأنظار...عما قريب سيفترسون بعضهم بعضا ...فلا تفوت علينا متعة المتابعة .
سيدي الرئيس دع شعبكم الكريم ...يشعر بالندم على ما اقترفت يداه ...و يستشعر الخطر لما سيحل عليه من مصائب ... و يكتشف انه كان ضحية عبث المتآمرين... و تذكر دائما... انك أول رئيس عربي مدني منتخب... يسلم السلطة بلا انقلاب... و بلا اقتتال... و بشموخ...و تذكر انك... أول رئيس عربي ديمقراطي ومفكر و مثقف و حقوقي و سياسي بامتياز... لا يخشى شعبه و شعبه لا يخشاه... و انك كنت اكبر من أن تنتمي إلى جهة معينة... أو حزب محدد... أو طبقة ما... و الآن أنت اكبر من وطن.
و تذكر أنّ محمد رسول الله ...رموه بالحجارة و اتهموه بالجنون... و هو يدعوهم إلى التوحيد ...و أنهم صلبوا المسيح وهو يدعوهم للخلاص... و فضّلوا عبادة العجل على عبادة رب العجل... وجعلوا من غاندي سخرية وهو يدعوهم للوحدة و السلام... و أطلقوا على بورقيبة الصبية و الأوغاد... لينالوا منه بالحجارة والشتائم ...وهو يدعوهم إلى الحرية و الاستقلال... سيدي الرئيس ...فآلتكن نبيا...أو رئيسا ...أو زعيما ...أو مواطنا ...فأنت المنتصر.
سيدي الرئيس ..دعك منهم ...و لا تستفزهم أكثر... و هم يعيشون نشوة الانتصار المزيف ... على إيقاع كؤوس الوسكي و الشمبانيا و غناء المخنثين ...و اتجه شرقا و غربا ... و كن وسيطا بين الخصوم ... و صوتا للعقل في قلب المعارك الدامية ...و كن صوتا للحق و الفضيلة و القيم ... و حفز دول العالم الحر على أن يساعدوا شعبكم على تحقيق الرقي و التقدم... و حفزهم على الاستثمار في بلادنا ... و على تشغيل شبابنا ...و اعمل على تحقيق برنامجكم الذي وعدتم به شعبكم...كأن شيء لم يكن .... و عد إلينا ظافرا ... بأكثر من تكريم ...و أكثر من تقدير ...وأكثر من انجاز... حينذاك ستحكم دون ان تكون مقيد بمنصب... أو ملتزما بقيود... وسيكون أمرك مطاع... دون أن تكون في القصر... او محاط برجال الأمن... و ستكون وحدك الرئيس الحقيقي لهذه البلاد و زعيمها الفعلي .
سيدي الرئيس تخلص من كل قيد يحيط بك... و انطلق نسرا في سماء الحرية ...و آلتكن روح الثورة تطوف الأرض من بلاد إلى بلاد...و من مكان إلى مكان... و من منتدى الى منتدى... ومن جامعة إلى جامعة...و من منبر إعلامي إلى آخر ... وكن فارس الثورة الذي تحدث عنه هيقل و هو يطوف الأرض لينشر قيم و الحرية .
سيدي الرئيس قل لهم انك من بلد المليون و نصف مواطن حر...صوتوا لكم دون طمعا في منصب...أو طموحا في سلطة ...أو خوفا من ضياع مصلحة ...أو التزاما بانتماءات إيديولوجية بالية ... أو انتصارا لقيم الهزيمة و الخنوع و ضيق الأفق و الأنانية ... و قل لهم سيدي الرئيس... ما فعلت الثورة المضادة بنا...و كيف إنها أفتكت الصندوق... و هي تدعي زورا الاحتكام إليه... و قل لهم أنّ الدولة العميقة ترفض أن تستسلم ...و إنها تستجدي قوانين الثورات الصارمة أن تطبق عليها...و ان عبيد الذل و الهوان... عزت عليهم نفائس الحرية.
و قل لهم أنّ المعركة الحقيقة في بلادنا كانت و مازلت...معركة حول القيم... بل حول سلم القيم و سلم الأخلاق...سواء تعلق الأمر بالشكل أو بالمضمون...و أن هناك من لا يحتمل التفكير...مجرد التفكير... في انه على ضلال و البقية على صواب ... و ان الصراع في جوهره هو بين القديم و الجديد ...كما ألحّت على ذلك حنّا ارندت في كتابها "ما الثورة" .... قديم لا يريد أن يختفي ...و جديد يقاوم لكي ينجلي.
و حدثهم سيدي الرئيس عن شعب المواطنين...: نعم شعب المواطنين... في مقابل... الرعاع... والغوغاء...و الأوغاد...و العبيد...و الأوباش...و الفساد...والحقراء...و السفلة...وجواري ملاهي الليل... و قطاع الطرق؛ شعب المواطنين مقابل دولة الأحقاد...و البغضاء...و الأطماع...و التزلف...و الوشاية...و العبودية ...و الانقلابات...و التسلط... و الاستبداد.
و قل لهم...أنّ شعب المواطنين لا حقد له على الإسلام و المسلمين و لا مصلحة له في إقصاء احد... و أنه يريد وطنا يضم الجميع... بل قل لهم إن شعب المواطنين اختار أن يصطف إلى جانب الإسلاميين ليواجه الاستبداد ، بينما هناك من اختار أن يصطف إلى جانب الاستبداد ليعلن الحرب على الإسلاميين .
سيدي الرئيس قل لهم ان شعب المواطنين يرفض الاستبداد و التسلط في كل مكان و انه يطلب الحرية لجميع الشعوب... كما يطلبها لنفسه... حتى وان سقطت أنظمة... و انهارت دكتاتوريات... و تهاوت زعامات... وانه معتز بعروبته...مفتخر بإسلامه... و لكنه يرفض أن يكون انتمائه للعروبة و إيمانه بالإسلام انتماءا للاستبداد و القمع و الطغيان .
و قل لهم ان شعب المواطنين... يفكر بعقله كما ذهب إلى ذلك كانط في رسالته الشهيرة ما هي الأنوار :فكر بنفسك ...فان الشجاعة أن تفكر بعقلك أنت... و من شجاعته انه استطاع بعقله أن يواجه... آلة الإعلام الرهيبة للثورة المضادة... و لم تنل منه صحافة الارتزاق و الاستعباد و التعليمات الجاهزة... بل بات ذهنه أكثر صفاء و وضوحا و أكثر عزما و تصميما على إنجاح ثورته...و قل لهم... إن شعب المواطنين مذهبه في الحياة:ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان... وعنوان قصيدته... كما قال محمود درويش: "ولا نتوب عن أحلامنا... مهما تكرر انكسارها".
سيدي الرئيس قل لهم إن شعب المواطنين قبل بنتائج الانتخابات و لم يحتج عليها أو يتعلل برفضها على أساس ضعف التسجيل و الإقبال أو بحجة تمثيل الأغلبية الصامتة...كما لم يرفضها على أساس استغلال أطماع الناس وخوفهم و جهلهم...و تزوير إرادتهم... و إنهم ملتزمين بالدستور و القانون: لا يدعون إلى الانقلاب عليه و لا يبررون انتهاكه أو تجازوه ...و كل ما يتمنوه هو ان يعيشوا بسلام... في وطن حر...ليسوا فيه ملاكة و لا كراية ...و تلك المفردات الإقطاعية التي تعيدنا إلى عصر البايات.
و قل لهم سيدي الرئيس ان شعب المواطنين يدفع ثمن تواطأ القوى الإقليمية و الدولية على إفشال التجربة الديمقراطية الوليدة في تونس... و قل لهم كيف تغدق السعودية و الإمارات ملايين الدولارات على مراكز البحوث الأمريكية و الغربية ليرسخوا في أذهان الجميع مقولة الاستثناء العربي ...و إن العرب ليسوا أهلا إلا للاستبداد و التسلط و التوريث... وذكرهم بما قدموه لنا من فتاة... و هم يزعمون المساعدة...بينما أغدقوا الأموال الطائلة على جمعيات الفتنة ومنظمات الأجندات الجاهزة... عقابا لنا على ما فعلناه بالطاغية.
و قل لهم ان الثورة التونسية لم تفشل.. و إنها انتصرت لعلي على معاوية ...و كشفت جميع الخصوم و بينت معادن الرجال ... و كرست لأول مرة التداول السلمي على السلطة... و أن من يتشدقون اليوم بذلك الانجاز ... إنما يتشدقون بإنجاز أنتم من صنعه بفضل صبركم على الأذى... و استماتتكم على تطبيق القانون... و الالتزام بحماية مسار الانتقال الديمقراطي إلى آخر لحظة... و الحال أنهم كانوا يطالبون بالانقلاب عليكم... و افتكاك السلطة منكم... و خلع أبواب القصر ... و قل لهم سيدي الرئيس... إن الثورة التونسية بات لها اليوم مفرداتها و مواطنيها و زعمائها ومثقفيها و فنانيها و سجنائها و قاموسها و أن عبارة الشعب المواطنين عنوان هذاا لقاموس.
سيدي الرئيس حدثهم عني... و قل لهم إني أستاذ جامعي...نلت بجهدي موقعي في الجامعة التونسية ... تحصلت على الأستاذية في القانون العام وعلى الدكتوراه في العلوم السياسية ... درست في أكثر من كلية و أكثر من معهد وجامعة ...و قمت بتدريس أكثر من مادة: في القانون الدستوري والإداري و الجبائي والعلاقات الدولية و حقوق الإنسان... وانخرطت منذ أكثر من عقدين في رفض الاستبداد... جئت من وسط ريفي ...من أقصى نقطة في الشمال... يمكن أن تطل على الغرب... لست سليل العائلات البرجوازية العريقة... و لا ابن الطبقات المسحوقة ... لا القي بالفضلات في الشارع ...و لا ارتاد المقاهي و الملاهي...و لا العب الورق ... عملت دائما بجد و حماس... و كنت دائما وفيا لعملي... ووفيا لوطني... و لا أتهرب من دفع ضرائبي ...و لا اعتدي على احد... ولا أتوسل أبد... و شغوف بقراءة الكتب...اطلعت في مراهقتي على كتابكم لماذا ستطأ الأقدام العربية أرض المريخ؟ ...فولدت معه فكريا... وقد اثر في نفسي على مستوين ...الاعتزاز بلغتي العربية بما يفيد رفض "الفرنكو أراب"...و قراءة التراث الإسلامي قراءة نقدية على أساس حرية الفكر و التعبير و حق الحياة... و في وقت لاحق قرأت كتابكم حقوق الإنسان... من اجل رؤية إنسانية... فتعلمت منه تجاوز الثنائيات الزائفة... و انه لا كونية لحقوق الإنسان دون احتراما لخصوصيته... و انه لا خصوصية لحقوق الإنسان دون تطلع نحو الكونية...و تعلمت منه...رفض القوالب الجاهزة...التي تريد أن تفرضها علينا سلطة الدولة ... لتجردنا من قدرتنا على الرفض و على الابتكار و الإبداع ... فمنحتكم صوتي... و الآن اشعر بالخذلان...و لكني فزت بالانتماء الى شعب المواطنين.. و لن استسلم ...سيدي الرئيس... تذكر انك لست وحدك...فالمعركة ما لبثت إن بدأت.
 بقلم د. شاكر الحوكي











0/Post a Comment/Comments