حرّية العقيدة بين الإسلام و الإعلان العالمي لحقوق الإنسان


   في العاشر من ديسمبر 1948 م صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قبل الجمعية العامة للأمم المتّحدة، و قد تضمّن الإعلان ثلاثين مادة تشمل المبادئ العامة لحقوق الإنسان.
   و قد استقبل الإعلان العالمي بردود فعل مختلفة – و بشكل خاص – في العالم الإسلامي. فقد أعلنت بعض حكومات الدّول العربية تحفظّها على بعض ما جاء في الإعلان، و في مذكّرة المملكة العربية السعودية سنة 1970 م إشارة واضحة إلى أنّ الخلاف في الاجتهاد في بعض تطبيقات الإعلان و ذلك الميثاق، لا في مبادئهما الأساسية حول كرامة الإنسان    و حرّية الإنسان و التّعايش السّلمي بين بني الإنسان. و قد شجّع الإعلان العالمي بعض المناطق الإقليمية إلى إصدار مواثيق إقليمية لحقوق الإنسان تعبّر عن ثقافاتها و قيمها، فصدر مشروع الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان سنة 1981 م، و مشروع الميثاق العربي المعدّ في إطار الجامعة العربية سنة 1983م، و مشروع ميثاق حقوق الإنسان و الشّعب في الوطن العربي "معهد سيراكوزا" سنة 1989 م، و أخيرا الميثاق العربي لحقوق الإنسان سنة 2004.
   و بالمقارنة بين الإعلان العالمي و هذه الإعلانات الإقليمية لا نجد فوارق حقيقية سوى في أسلوب الصّياغة، أو الإضافة، أو الإغفال أحيانا، و لعلّ الميثاق العربي لحقوق الإنسان 2004 هو اكثر المواثيق تحفّظا.
   و من خلال المقارنة يتّضح أنّ القضايا التي شكّلت نوعا من التّباين  في الاجتهاد          و المفاهيم، و أدّت إلى إعلان التّحفّظ على بعض ما جاء في الإعلان العالمي هي ثلاثة قضايا رئيسية:
1-   حرّية العقيدة.
2-   المساواة.
3-   الديمقراطية.

·       حرّية العقيدة:
ينصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادّته الثّامنة عشر(18) على ما يلي:
"لكلّ شخص الحقّ في حرّية الفكر و الوجدان و الدّين و يشمل هذا الحقّ حرّيته في تغيير دينه أو معتقده". و حرّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتّعبير، و إقامة الشّعائر     و الممارسة و التّعليم بمفرده أو مع جماعة و أمام الملأ أو على حدة.
   يمكن القول – بكلّ ثقة – أنّ الإسلام قد سبق الإعلان العالمي في ضمان حرّية الإنسان في معتقده. و كتب التّفسير و الفقه قد أجمعت على اعتبار آية " لا إكراه في الدين" قاعدة كبرى من قواعد الإسلام، لأنّ حرّية الاعتقاد هي أوّل حقوق الإنسان      و يعتبرها مفكّرو الإسلام: "أسبق الحرّيات العامّة لأنّها القاعدة و الأساس"، و الله عزّ     و جلّ لم يبن الإيمان على الجبر و القسر، و إنّما بناه على الاختيار الحر، لأنّ الإكراه في الديّن يفسد و يبطل معنى الابتلاء و الامتحان، و يجعل من الصّعب معرفة من الّذي أحسن عملا. يقول الله تعالى: " إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا"، " إنّا هديناه السبيل إمّا شاكرا أو كفورا". و يقول تعالى: " و قل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر ".
   صحيح أنّ هناك اجتهادات فقهية حاولت أن ترسّخ في الأذهان أنّ الآيات المتعلّقة بالحرّية الدّينية قد نسخت بآيات الجهاد، إلا أنّ التّحقيق المعاصر قد اثبت بطلان هذا الاجتهاد. و أكد أنّ الحرية هي الأصل و أساس للاعتقاد فمن آمن فلنفسه و من ضلّ فعليها، يقول الله تعالى: " قل يا أيّها النّاس قد جاءكم الحقّ من ربّكم فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه و من ضلّ فإنّما يضل عليها و ما أنا عليكم بوكيل".
وهو ما سارت عليه معظم المواثيق الدّولية و بخاصة إعلان القاهرة لعام 19990 م    و الميثاق العربي لحقوق الإنسان 2004.
   و إذا كان الإسلام واضحا في النّصّ على حرّية العقيدة، برغم بعض الاجتهادات الفقهية غير الملزمة، فإنّ المشكلة لا تتعلّق بحرّية الاعتقاد و حسب، و إنّما تتعلّق بحرّية الإنسان في التّعبير عن عقيدته و ممارسته لها في علنية و حرّية، و في حقّه في الدّفاع عنها و الدّعوة لها و في نقد غيرها من المعتقدات.
   في هذا الصّدد يؤكّد د. إسماعيل الفاروقي (رحمه الله( أستاذ علم الأديان بجامعة "تمل" الأمريكية على أنّ للمواطن غير المسلم في الدولة الإسلامية الحق في إذاعة قيم هويته في إطار القانون الذي يخضع له الجميع. و إذا كان من حقّ، بل من واجب المسلم أن يعرض دعوته على مواطنه غير المسلم، فغنّ لهذا الخير الحقّ نفسه. و إذا كانت هناك من خشية على إيمان المسلم فليس أمام هؤلاء من علاج إلا التّعمّق في إيمانهم.
   و رغم المواقف المتحفّظة لأبي العلى المودودي في بعض القضايا، و منها قضية ولاية المرأة، إلا أنّه يقف بوضوح في صفّ حرّية غير المسلم في هذا الجانب فيقول: "سيكون لغير المسلمين في الدّولة الإسلامية من حرّية الخطابة و الكتابة و الرّأي        و التّفكير و الاجتماع ما هو للمسلمين سواء بسواء، و سيكون عليهم من القيود             و الالتزامات في هذا الباب ما على المسلمين أنفسهم. فسيجوز لهم أن ينتقدوا الحكومة     و عمّالها حتّى رئيس الحكومة نفسه ضمن حدود القانون. سيكون لهم الحقّ في انتقاد الدين الإسلامي، مثلما للمسلمين الحقّ في نقد مذاهبهم و نحلهم، و يجب على المسلمين ان يلتزموا حدود القانون في نقدهم هذا كوجوب ذلك على غير المسلمين، و سيكون لهم الحرية كاملة في مدح نحلهم و إن ارتدّ أي مسلم فسيقع وبال ارتداد على نفسه، و لا يؤخذ به غير المسلمين، و لن يكره غير المسلمين في الدولة الإسلامية على عقيدة أو عمل يخالف ضميرهم و سيكون لهم أن يأتوا كلّ ما يوافق ضميرهم من أعمال ما دامت لا تصطدم بقانون الدولة".
   و قد ذهبت كل مشاريع مواثيق حقوق الإنسان الإقليمية في اتّجاه حرّية التّعبير للجميع في إطار ضوابط القانون. و إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام سنة 1990 م هو الوحيد الذي كان متحفظا و متشدّدا فقد اشترط في مادّته (22) ألا يتعارض الرّأي مع مبادئ الشّريعة، و إلا يتعرّض للمقدّسات، أو يخلّ بالقيم، او يصيب بالتّفكيك و الانحلال و الضّرر، او يعمل على زعزعة العقيدة".
   و هذه التّحفّظات المبالغ فيها تتنافى مع الحرّية سواء للمسلم او لغير المسلم، و لو طبّقت لأصبح التّبشير محرّما، و كذلك الدّعوة للإسلام، إلا إذا كان هناك تمييز بين حقّ المسلم في الدّعوة و حرمان غير المسلم من الحقّ نفسه في التّبشير. و هذا الاتّجاه يتنافى مع مفهوم الغالب من مفكّري الإسلام و المستجلّين روحه السّمحة، و يتنافى مع التّاريخ الإسلامي الذي عرف بالتّسامح الكامل مع الدّيانات الأخرى.
   و من منطق "زعزعة العقيدة" نأتي إلى القضية الخلافية الكبرى وهي "تغيير الدّين" او ما اصطلح على تسميته "بالرّدّة"، أي الكفر بعد الإسلام. و السّؤال المطروح هو: هل حرّية الاعتقاد التي كفلها الإسلام لغير المسلم تبقى له بعد دخوله فلا يؤخذ بارتداده كما لم يؤخذ بعدم إيمانه قبل دخوله؟
   عند العودة إلى القرآن الكريم الذي يعتبر المرجع الأوّل و الأساس للمسلمين، لا نجد فيه أي نصّ يحدّد عقوبة في الدّنيا. هو عمل عند الله بغيض و يستحقّ من يقوم به غضب الله و لعنته، كما يستحق العذاب في الآخرة.
   لكن لم يأت في القرآن أي نصّ عل أنّ المرتدّ يقتل، أو ينزّل به أي عقاب دنيوي رغم أنّ القرآن الكريم ذكر الارتداد عن الدين في كثير من آياته. و من هذه الآيات: "ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة. (البقرة217).
   " يا أيّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم و يحبّونه..." (المائدة 54).
"من كفر بالله من بعد إيمانه غلا من اكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدرا، فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم" (النحل 107).
"كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أنّ الرّسول حقّ و جاءهم بالبينات      و الله لا يهدي القوم الظّالمين. أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله و الملائكة و النّاس أجمعين".
   هذه الآيات صريحة في إشارتها إلى الرّدّة بعد الإسلام، و مع هذا فلم تشر أقلّ إشارة إلى عقاب دنيوي أو حدّ يوقع على المرتد كما يوقع على السارق أو القاتل.
   و نجد في المقابل العكسي لذلك التّشديد في القرآن على حرّية الاعتقاد و تحريم الإكراه في الدّين، و في ذلك آيات عديدة منها:
" قل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر..." (الكهف 29).
"قل يا أيّها النّاس قد جاءكم الحق من ربّكم فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه و من ضلّ فإنّما يضلّ عليها و ما أنا عليكم بوكيل". (يونس 108).
"ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أ فأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنيين" (يونس 99-100).
"فذكّر إنّما انت مذكّر، لست عليهم بمسيطر3 (الغاشية 21-22).
و أخيرا يأتي أمر الله حازما جازما، لا لبس فيه و لا غموض في قوله تعالى:
"لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرّشد من الغي" (البقرة 256).
   لما سبق من تشديد القرآن على حرية الاعتقاد و عدم وجود نص قرآني ينصّ على عقوبة دنيوية للمرتد، اتّجه الغالب من علماء الإسلام المحدثين و مفكّريه و رجال القانون الدّستوري إلى القول: بأن الارتداد عمل غير مستحب و بغيض عند الله و ملائكته       و النّاس أجمعين، لكن لا علاقة له بحرية العقيدة التي أقرّها الإسلام و شدّد عليها.       و حين يصبح الارتداد عملا يهدّد النّظام العام يصبح جريمة سياسية و ينظر إليه في إطار الإخلال بالنّظام العام.
   و يرى الدكتور محمّد الجابري "أنّ فقهاء الإسلام كانوا يفكّرون في المرتد، لا من زاوية أنّه شخص يمارس حرّية الاعتقاد، بل من زاوية انّه شخص خان المجتمع الإسلامي، و خرج ضدّه نوع من الخروج". و لهذا السّبب يتصوّر البعض –كما قال الدكتور عبد الرحمان متولي – أنّ الخروج على الإسلام و مجرّد الخروج من الإسلام، كما لو كانا امرين متماثلين، و على الأقل متقاربين، و الواقع أنّ ثمّة فارقا بعيدا بين الاثنين فهناك – كما يرى الدكتور متولي – فرث بين نصراني أسلم من اجل الزواج بمسلمة ثمّ رجع إلى دينه لما تصرّمت العلاقة و بين حالة وراءها تخطيط منظّم لتغيير نظام الدولة.
   و فرّق أيضا بين فرد الناس اهتزّت عقيدته بفعل تأثير ثقافي، فيعالج الأمر بما يناسبه من توعية و تحسين ثقافي، و بين عمل تبشيري يهدف إلى نسف الدولة الإسلامية. إذا فالمرتد الذي يستحق العقاب الدنيوي هو الذي يخرج على الدولة الإسلامية محاربا أو متآمرا أو جاسوسا للعدو و هدّدا لاستقرار الوطن و أمنه. و الحكم في هذه الحالة ليس حكما ضد حرّية العقيدة بل ضدّ خيانة الأمّة. و في هذه الحال – يرى محمد الجابري أنّ الوضع القانوني "للمرتد" لا يتحدّد في الإسلام بمرجعية حرية الاعتقاد و إنّما يدخل في باب الحرابة.
   و رغم أنّ الآيات القرآنية قد أشارت بصراحة إلى المرتد و لم ترد فيها أي إشارة إلى عذاب دنوي أو حد يوقع على المرتد كما يوقع على السارق أو القاتل. و رغم أنّ الآيات القرآنية الأخرى قد بنت الاعتقاد على إقناع الفرد دون قسر أو ضغط "من شاء منكم فليؤمن و من شاء فليكفر"، إلا أنّ بعض الفقهاء- كما قال جمال البنا -  تحيفوا على هذه النّصوص الصّريحة الواضحة بحجّة السّنّة. و استندوا على ذلك بحديث نبوي أحادي يروى عن ابن عبّاس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " من بدّل دينه فاقتلوه".
   و اختلف الفقهاء في مفهوم الحديث، هل المراد من بدّل دينه من المسلمين فقط، أو يشمل من تنصر بعد أن كان يهوديا مثلا؟ و هل يشمل الحديث الرّجل و المرأة؟ و هل يستتاب المرتد لمدة معينة أو يقتل فورا؟ و ما حكم المرتد إذا تمّ الظّفر به قبل أن يحارب؟
   يرى بعض العلماء أنّ الحديث الذي أورده البخاري عن ابن عبّاس "عن قتل المرتد" هو حديث أحادي و ضعيف السند، و لا يمكن أن يرقى قطعية ثبوته و دلالته إلى مستوى الآيات القرآنية التي تنص على عدم الإكراه في الدّين، و تتّفق مع سماحة الإسلام و إلا فكيف نفسّر عدم نص القرآن على أية عقوبة دنيوية على المرتد، رغم انّه أشار إلى الرّدّة في العديد من الآيات القرآنية.
   و يرى الأستاذ الشيخ محمود شلتوت أنّ الكثير من العلماء يروا أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد و أنّ الكفر بنفسه ليس مبيحا للدم، و إنّما المبيح هو محاربة المسلمين.
   و يقول الشيخ عبد المتعال الصعيدي، بعد استعراض الآيات القرآنية و تسامح النّبي صلّى الله عليه و سلّم مع المنافقين: " فإذا ورد بعد هذا أحاديث آحاد تفيد قتل المرتد فإما أن لا نقبلها لأنّ أحاديث الآحاد لا يعمل بها في العقائد. و قتل المرتد على تغييره لاعتقاده يدخل في باب العقائد لا الفروع. و إمّا نحملها على المرتد المقاتل لأنّ المسلمين كانوا على عهد النبي صلّى الله عليه و سلّم في حالة حرب فكان من يرتد بعد إسلامه لا يلزم بيته، بل ينضمّ إلى أعداء الإسلام يقاتل معهم. فكأنّ الأمر بقتله على قتاله مع أولئك الأعداء، لا على ردّته عن الإسلام. و كان عدم قتل المنافقين الذين ارتدوا بعد إيمانهم لأنّهم لم يقاتلوا المسلمين".
   و يرى آخرون أنّ الرّدة لو كانت جريمة عقوبتها القتل كحدّ من الحدود فلا يجوز العفو فيها و لا شفاعة. و الرّسول صلّى الله عليه و سلّم قد عفا لدى دخول مكة عن عبد الله بن أبي سرح، و قبل فيه شفاعة عثمان. و لم يقتل عمر بن الخطاب أبا شجرة و اكتفى بطرده. و استنكر الرسول عليه الصلاة و السلام قتل امرأة يوم فتح مكّة بقوله: "ما كانت هذه لتقاتل"، وهو الدليل على انّ القتل إنّما هو لمحارب يهدّد النّظام العام لا لتغيير الدّين.
   و بعد استعراض شامل لأقوال الفقهاء و خلافاتهم حول قتل المرتد و المرتدة،        و الاستتابة و عدم الاستتابة، يقول جمال البنّا: " إنّ هذه القطع بعثناها من متحف التّاريخ لتوضّح لنا إلى أيّ مدى وصل التّخبّط". و يضيف أنّ الأمر لا يحتمل غير قول واحد " هو أنّ أي دخل للسّلطة تحت أي اسم كانت و بأيّ صفة اتّصفت بين الفرد       و ضميره مرفوض بتاتا. و أنّ الاعتقاد يجب أن يقوم على حرّية الفرد و اطمئنان قلبه، و دليلنا:
أوّلا: أنّ القرآن الكريم ذكر الرّدّة ذكرا صريحا في أكثر من موضع، و لم يرتب عليها عقوبة دنيوية و لو أراد لذكر.
ثانيا: أنّ القرآن الكريم أوضح بما لا يدع شكّا، و في مئات الآيات، و بالنّسبة لكلّ أبعاد قضيّة الإيمان أن المعمول عليه و الأساس هو القلب و الإرادة، و صرّح بأنّ ليس للأنبياء من دخل في هذا بضبط أو قسر، و انّه لا إكراه في الدّين و من شاء فليؤمن      و من شاء فليكفر. و معنى هذا أنّه قرّر سلبا و إيجابا حرية الاعتقاد. و يعد كلّ تقييد لهذه الحرية افتئاتا صريحا على هذه النّصوص.
ثالثا: أنّ القرآن الكريم عندما قرّر حرّية الاعتقاد، فإنّه كان في حثيثة الحال يقرّر مبدءا أصوليا تحتّمه طبائع الأشياء و الأصول العامة و حكم العقل و المنطق، و لو لم يقرره القرآن لفرض نفسه على المجتمع بحكم السّلامة الموضوعية، و أنّه إحدى السّنن التي وضعها الله للمجتمع الإنساني، و لم تأت الشّرائع الإلهية لمخالفتها، و إنّما جاءت لتقريرها.
رابعا: أنّه لم يرد على النّبي صلّى الله عليه و سلّم أنّه قتل مرتدّا لمجرّد ارتداده على كثرة المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم.
خامسا: أنّنا لا نرد حديثا كونه حديث آحاد و كل حديث يثبت لدينا نحترمه و نقدّره.     و لكن يجب علينا لكي نطبّقه كمبدأ عام أن نتقصّى غاية التّقصّي و أن نلمّ بملابسات الحديث كلّه و أن نتأكد من انّه قد روي بالحرف و ليس بالمعنى. لأنّه لا يجوز أن نبيح الدماء أو نقيّد الحرّيات مع احتمال الرواية بالمعنى. و أنّ هذا قد يغيّر المقصود. و مع عدم الإلمام بالملابسات التي قد تجعله حكما خاصّا، و هذه كلّها شبهات قوية، و يمكن لأقلّ منها أن ترد تطبيق حدّ مذكور في القرآن على فرد واحد، فكيف يمكن تقرير مبدأ عام يطبّق على الكافة مع وجودها؟
سادسا: أنّ فكرة الرّدّة اقترنت على عهد النّبي صلّى الله عليه و سلّم بعداوة الإسلام      و حربه. فمن آمن كان يعمل لنصرته، و من ارتدّ كان يعمل على حربه، و يلحق بالمشركين كما حدث في حالة عبد الله بن أبي سرح الذي كان قد آمن ثمّ ارتد و أخذ يؤلّب قريشا على النبي صلّى الله عليه و سلّم، فأهدر النّبي صلّى الله عليه و سلّم دمه، فلمّا كان فتح مكّة لاذ بعثمان بن عفّان و كان أخوه في الرّضاعة، فغيّبه حتّى اطمأنّ النّاس ثمّ أحضره إلى النبي و طلب له الأمان، فصمت رسول الله صلى الله عليه و سلّم طويلا ثمّ أمنه فأسلم.
   و الذّكر المأثور للرّدّة في التّاريخ الإسلامي هو ردّة القبائل العربية بعد وفاة النّبي صلّى الله عليه و سلّم. و قد كانت ردّة هذه القبائل في حقيقة الحال لرفض دفع الزّكاة    و من هنا كانت مقولة أبي بكر المشهورة: " و الله لو منعوني عقالا كانوا يؤدّونه للنّبي صلّى الله عليه و سلّم لحاربتهم من اجله". و أصرح منها قولته في حربه " لن يفرق بين الصلاة و الزّكاة" فردّة هذه القبائل كانت سياسية أكثر ممّا كانت دينية بالمعنى الذي نفهمه، و لهذا لا نجد استشهادا بها في الكتب الفقهية تأييدا لدعوى قتل المرتدّ.
   أمّا فكرة الارتداد كنوع من ممارسة حرية العقيدة فقد كانت مستبعدة وقتئذ، و من هنا فحتّى الفقهاء أنفسهم لاحظوا هذه النقطة و فرّقوا بين القبض على المرتدّ قبل أن يجاهر بالمحاربة أو بعدها.
   و بالعودة غلى التّاريخ الإسلامي في عصر النبوة و الخلافة الرّاشدة، نجد أنّ المسلمين لم يخوضوا الحروب إلا دفعا لعدوان المشركين أو تحريرا لإرادة النّاس       و حريتهم في الاختيار الذي انتهكته الطّغاة و المستبدّون. و قد أوجز الإمام حسن البنّا رحمه الله أغراض الحرب في الإسلام في:
1.    ردّ العدوان و الدّفاع عن النّفس و الأهل و المال و الوطن و الدين.
2.    تامين حرّية الدّين و الاعتقاد للمؤمنين الذين يحاول الكفار أن يفتنوهم عن دينهم.
3.    حماية الدّعوة حتّى تبلغ إلى النّاس جميعا و يتحدّد موقفهم منها.
4.    تأديب ناكثي العهد.
5.    إغاثة المظلومين و المستضعفين.  
         و إذا كان الإسلام و المسلمون قد حاربوا من اجل تحرير إرادة الناس و حريتهم في الاختيار فهل يقومون بعد ذلك بممارسة ما حاربوا الآخرين من اجله؟ يقول السيد قطب عند تفسيره آية " لا إكراه في الدين" أنّ من غير المعقول أو المقبول أنّ الإسلام الذي ناضل لفرض حرية الاعتقاد، و واجه المسلمون من المشركين كل عنت لمخالفتهم دين الآباء      و الأجداد، أن يأتي ليقف ضدّ حرّية الاعتقاد أو العقيدة.. "ليس جائزا في منطق العقل         و الأخلاق أن ينتصب هؤلاء في الغد و قد مكّن الله لهم في الأرض جلادين سفاحين يسومون أصحاب العقائد الخزي العسف و الهوان لحملهم على خلاف ما يعتقدون".
   لقد أثبتت الشّواهد التاريخية للأمة الإسلامية التي تعرضّت  للاستعمار و الغزو الثقافي  و العمل المنظّم لمحو الثّقافة الإسلامية بل و استئصال الدين الإسلامي بالقوة، أنّ الإسلام لم يحم بالخوف من القتل عند الارتداد و إنّما حمى بقوّة إيمان المسلمين و عظمة مبادئ دينهم.
   المسلمون في ظل الاستعمار و في ظلّ المعسكر الشّرقي كانوا مطالبين بالتخلي عن دينهم، و مع كل ما واجهوه من عنت و غزو ثقافي ظلّوا صامدين و عضّوا على دينهم بالنواجذ و قبلوا التّضحية بالنّفس و النّفيس كما جرى في البوسنة و الشّيشان في سبيل تمسّكهم بالدين الإسلامي الحنيف. و ها هي الشّيشان التي عاشت سبعين عاما تحت نظام إلحادي حرم عليها فيه العبادة و إقامة الشّعائر و جبر أطفالها إلى مدارس إلحادية تشجب الدّين ليلا و نهارا، تعلن اليوم الدعوة إلى تطبيق الشرعية الإسلامية و يؤدي أهلها الصلوات الجماعية في الميادين و الساحات العامّة.
   إنّ قوة الإسلام تنبع من قوة حجّته و عظمة مبادئه و روعة سننه. و تمسّك المسلمين نابع من إيمانهم الراسخ الذي صمد أمام كلّ المصاعب، و لهذا فإنّ من غير المقبول أو المعقول ان يدعي البعض انّ الخوف من قتل المرتد هو الذي حمى الإسلام من ارتداد المسلمين عليه. مثل هذا القول يسيء إلى الإسلام و لا يخدمه، فقناعة المسلمين بدينهم هي التي حفظت الإسلام في صدورهم و عظمة مبادئه و قوة حجته و برهانه هي التي تشدّ  إلى الإسلام المئات ممن يعتنقونه كلّ يوم، و في البيئة الحرّة يزدهر الإيمان، أمّا البيئة المغلقة فلا تسمح بأكثر من الحفاظ على المظاهر و الطّقوس. و المساس بحرّية العقيدة يجرّ حتما إلى المساس بالحريات الأخرى فهي أمّ الحريات. و حين تحرم حرية العقيدة سوف تجر إلى تحريم حرّية الفكر و إلى الرقابة على حرّية التعبير، و بالتالي الحد من المعارضة السياسية و السير في طريق الاستبداد و الحكم بالقهر و الإكراه.
        و لهذه الاعتبارات كلّها و لما سبق من توضيح بالأدلّة القاطعة، فإنّ أغلب المفكّرين الإسلاميين المحدثين و عدد من المتقدّمين يقفون بوضوح مع حرّية الاعتقاد، و من هؤلاء السّرخسي و ابن القيّم و الإمام محمّد عبده و عبد الوهاب خلاف و الشيخ عبد العزيز جاويش. و من رجال القانون الدستوري فتحي عثمان و عبد الحميد متولي و حسن الترابي. و من مفكّري الإسلام و علمائه الذين يقفون مع حرّية الاعتقاد الأستاذ عبد المتعال الصعيدي الذي يقول:
" الحرية الدّينية حقّ عام لكل شخص في الإسلام فلكّ شخص في دولته من مسلم و غيره، أن ينتقل من دينه إلى دين آخر في كلّ وقت و في كلّ مكان، و لا فرق في هذا بين دين     و دين و يجب أن يدخل في هذا الحكم دين الإسلام نفسه حتّى لا يؤخذ عليه أنّه يستعمل سلطانه و يميّز في هذا نفسه على غيره.
     بقلم: سمير الجرّاح

0/Post a Comment/Comments