التخمة المطـلبية في الممارسة النقابية


     شدّ انتباهي التجديد الذي توخته نقابة التعليم الثانوي في الدعاية إلى إضراب 22 و23 جانفي الجاري حيث عمدت إلى إخراج ملصقة كبيرة الحجم ، رفيعة الورق ، فنية الإخراج حتى أنّها ذكرتني بإشهاريات الأفلام الأمريكية على غرار رامبو و تارميناتور وسبايدمان وغيرها من الإبهاريات الزائفة. و في نفس الوقت أرجعتني إلى السنوات العجاف في النشاط النقابي زمن الاستبداد لمّا كانت المركزية النقابية تصدر ملصقة على غرار ما ذكرنا آنفا تُضمّنها بيانها الخشبي بمناسبة الاحتفال بعيد العمّال، أيّام كان قادة الهياكل يوجعون رؤوسنا بملحمة الشيكاغو دون أن يُعرّجوا ولو تلميحا على الأوضاع في تونس، ودون أن يسمحوا لأيّ كان بأن يفتح فمه لرفع شعار أو لطرح استفسار . فالتعليمات صارمة والقيادة في فم المدفع ولا بديل عن الانبطاح. ولا يجب أن يُفهم كلامي على رفض الإنفاق في المناسبات العمّالية أو نقد التحرّكات النضالية، بل العكس هو الصحيح لأنّ المال في نهاية المطاف هو مال الشغيلة الذين هم عماد الإتّحاد ومحور الممارسة النقابية. كلّ ما في الأمر أنّنا نروم تجاوز الدّعاية الفجّة للإضراب كممارسة نقابية معزولة ويتيمة إلى إرساء منهج تواصليّ قائم على الحوار بين القواعد أنفسهم ثمّ بينهم وبين قياداتهم المحلية والجهوية والوطنية بما يُحقّق الوعي النقابي، ويُكرّس الديمقراطية التشاركية، ويُفعّل حقّ المواطنة. هذا هو المسار السليم والأوحد لإيجاد ممارسة نقابية ثورية تقطع مع رواسب الماضي بكلّ خروقاته وانحرافاته.
   على أنّ مثل هذا الهدف السّامي المشروع يقتضي منّا أن نتطهّر من رواسب الماضي بمصارحة منظورينا، ولما لا الاعتذار إليهم إن لزم الأمر بما يحقّق مصالحة حقيقية بين القواعد العمّالية والهياكل النقابية. إلاّ أنّ واقع الحال صادم بكلّ المقاييس . فالمركزية النقابية تخيّرت أسلوب الهروب إلى الأمام، واعتمدت الوصاية مطية لقيادة جملة من التحرّكات " النضالية " خدمة لحسابات ضيّقة. وقد ساعدها في ذلك انبطاح الأزلام تحت جناحها وارتماء الأيتام في أحضانها إلى درجة أنّ نسب المشاركة فاقت التسعين بالمائة كما كانت في انتخابات الحزب الحاكم أيّام الجمر . وفي المقابل نأى الباقون على المبدأ من النقابيين بأنفسهم عن هذه العلاقات المرضية وقد حكمتها الانتهازية، وسيطرت عليها الأنانية . و من الإجحاف أن نصنّف الرّافضين لإضراب التعليم الثانوي في خانة الموالين للحكومة المدافعين عن خياراتها بكلّ عماء وضلالة، والدليل أنّ العديد من المنتمين للتحالف الحاكم قد شارك في إضراب نوفمبر الماضي لاسيما النهضويين منهم. كلّ ما في الأمر أنّ الاختلاف موجود في طبيعة المطالب و توقيتها والطريقة التي أديرت بها المفاوضات واتخذت بها القرارات، وهو اختلاف مشروع أصلا. ذلك أنّ الكثافة المطلبية فضحت نيّة التعجيز من خلال الجمع بين مطالب سياسية كإصلاح المنظومة التربوية وهو مطلب لا يهمّ القطاع بمفرده بل المجتمع ككل ، وأخرى نقابية لا رابطة بينها كالحوافز من ترقيات ومنح واتفاقات سبق أن وقعت عليها الوزارة من ناحية ، والاعتراف بمشقة المهنة مع المطالبة بالتقاعد الاختياري في سن 55 سنة من ناحية أخرى . فقد بدا واضحا أنّ نقابة التعليم الثانوي تلهث وراء تجميع المطالب وتنويعها من أجل رصّ أغلب القواعد النقابية إن لم تكن جلّها لكأنّها في سباق لتدارك ما ضيّعته زمن الاستبداد .
  وهذه الشعبوية لا تخدم بحقّ مستقبل العمل النقابي لأنّها تفقده المصداقية على المدى المتوسط أو البعيد  فالأولى والأحرى أن نعتمد معيار الأولوية في ضبط المطالب وتحديد سقفها بما يخدم القطاع بعد الثورة. ولعلّ أولى الرهانات إصلاح المنظومة التربوية و مقاومة الآفات في المؤسسات التعليمية على غرار المخدّرات والمسكرات والإنفلاتات بجميع أنواعها . وهي لا تتطلب إضرابات في هذه المرحلة بل استشارات ومشاورات من أجل تصفية المناخ التربوي. أمّا التحدي الكبير المُلقى على عاتق الهياكل فيتمثّل في المسارعة بتجديد النقابات الأساسية فالجهوية ثمّ الوطنية من أجل عقد مؤتمر استثنائيّ يتماشى ومناخ الثورة ويكون ممثّلا حقيقيا للشغيلة يعبّر عن هواجسهم ويترجم تطلعاتهم على غرار أهمّ المراحل التاريخية للإتحاد العام التونسي للشغل...
            بقلم الأستاذ: فتحي الفقيه سعيد

0/Post a Comment/Comments