الفساد و سبل مكافحته

الفساد و سبل مكافحته
   الفساد لم يتمّ الإجماع على تحديد مفهومه تحديدا مطلقا رغم أنّه ظاهرة عالمية قديمة، غير أنّه تمّ ضبط جملة من صوره و أشكاله المتعدّدة و تجريم بعضها،    و نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الرّشوة و الابتزاز لتقديم خدمة مشروعة أو غير مشروعة، سوء استخدام المنصب العام بغية تحقيق مكاسب  شخصيّة، استغلال النّفوذ و المحسوبيّة، التّهرّب الضّريبي و الجمركي، تهريب الأموال، السّطو على الممتلكات العمومية، غسيل و تبييض الأموال، الاختلاس عن طريق تزييف السّجلات و الإيصالات الرّسمية، تحويل صغار الموظّفين إلى عملاء لأصحاب السّطوة و النّفوذ، انتشار ظاهرة السّياسيين الذين يحملون لقب رجال أعمال و لا همّ لهم سوى تعظيم ثرواتهم، الهدر في استعمال السّيارات الحكومية في غير دواعي العمل، استمرار أصحاب المناصب الإدارية و الحكومية في مراكزهم ( أبدية الإدارات )، اقتصار المحاسبة على صغار الموظّفين دون الكبار، المحاباة: أي تفضيل جهة على أخرى في الخدمة بغير حق للحصول على مصلحة معينة ...إلخ.
    لقد ازداد الفساد بطشا و تعاظما على إثر الانقلاب العالمي الّذي انتشر بين الدّول بتعلّة العولمة الاقتصادية، حيث تمّ رفع القيود و الحواجز الدّولية باعتماد وسائل التكنولوجيا و الاتّصال الحديثة، الّتي أدّت إلى مزيد تفشّيه بين مختلف الدّول  سواء كان منها النّامية أو المتقدّمة، خاصّة بعد أن ظهرت علينا بعض الدّول ترحّب بالأموال المنهوبة و المهرّبة، و تستقبل استقبال الأبطال و الفاتحين الهاربين من الفاسدين و المجرمين في حقّ شعوبهم و أوطانهم و المارقين عن مجتمعاتهم، و تغدق عليهم الضّمانات و الحماية و المزايا.
    إنّ انتشار الفساد و استفحاله على الصّعيد المحلّي أو الدّولي لا يمكن أن يبرّر وجوده و يجعل منه ذريعة لمواصلة تغوّله، لذا لزاما على تونس ما بعد الثّورة  أن تعي خطورة آثاره المدمّرة التي قوّضت التّنمية و الدّيمقراطية، و انتهكت  حقوق الإنسان، و أخلّت بالتّوازن الاجتماعي و الاقتصادي.
   من الصّعب جدّا معرفة مدى انتشار الفساد بشكل دقيق لأنّ معظم أعمال الفساد تتمّ بسرّية مطلقة، و نادرا ما يتمّ الكشف عن مثل هذه العمليات و خاصّة منها تلك الّتي تتمّ في الأوساط الرّسميّة العليا كأجهزة الدّولة و بقيادة إطارات حكومية      و سياسية و موظّفين سامين تتوفّر لديهم حصانة تحميهم من الملاحقة و الخضوع للمساءلة، فهذه الأوساط تشكّل فيما بينها شبكة متداخلة و مترامية تقوم من خلالها بأعمال فساد قد يحميها أصحاب السّادة و القرار بغطاء قانوني يعسر كشفه.
    إنّ توعية المجتمع التّونسي بمختلف فئاته و شرائحه بالآثار الخطيرة          و الانعكاسات المدمّرة  للفساد على مجمل الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية  من شأنه أن يخلق له دافعا و يحفّز قواه المختلفة من منظّمات و أحزاب سياسية  و جمعيات مدنية على محاربة ظاهرة الفساد و معاقبة رموزها، و يمكن تسجيل    و رصد الآثار التّالية:
- إضعاف حافز الاستثمار، و زيادة تكلفة المشاريع المحلّية و الأجنبية و التّهديد بنقلتها و خاصّة عندما تطلب الرّشاوي من أصحاب المشاريع و رجال الأعمال لتسهيل قبول مشاريعهم، أو يطلب الموظّفون المرتشون نصيبا من عائدات الاستثمار، وهو ما يجعل المستثمر يقوم بإضافة المدفوعات النّاجمة عن الرّشاوي و العمولات إلى التّكاليف ممّا يرفّع التّكلفة الاجتماعية لمشروعه و يخفّض العائد عن الاستثمار.
- إضعاف جودة البنية الأساسية و الخدمات العامّة، و ذلك بسبب سعي ذوي النّفوس الضّعيفة إلى الكسب السّريع و الرّبح غير المشروع فيلجؤون لتقديم الرّشاوي للاستحواذ على الصّفقات.
- تغيير تركيبة عناصر الانفاق العمومي، إذ يبدّد السّياسيون و المسؤولون المرتشون موارد عامّة  أكثر على البنود التي يسهل ابتزاز رشاو كبيرة منها مع الاحتفاظ بسرّيتها، وهو ما يفسّر قلّة الانفاق على الخدمات الأساسية مثل التّعليم  و الصّحّة مقارنة بمجالات الاستثمار في المجال الصّناعي أو التّجاري.
- إضعاف الفساد لشرعية الدولة، وهو ما يمهّد لحدوث اضطرابات و قلاقل تهدّد الأمن و الاستقرار السّياسي في البلاد.
- تأثير الفساد على روح المبادرة و الابتكار، و إضعاف الجهود لإقامة مشاريع استثمارية جديدة.
- زيادة الفقر و الجريمة.
- إضعاف شرعية الدولة و تقويض الثّقة بالقوانين و المسؤولين.
- يقود الفساد إلى التّشكيك في مدى فاعلية القانون من خلال ترسيخ قيم جديدة سلبية تسهم في ترسيخها مجموعة من العناصر الفاسدة فتتحوّل بمرور الوقت إلى سلوكيات عادية.
   لهذا كلّه لم تعد تجدي نفعا الشّعارات لمقاومة الفساد، و لا تكفي منابر الخطب  لمحاربته، لأنّ كلّما زادت لغة الكلام و الشّعارات استقبلها الرّأي العام بالاستخفاف و الاستهجان، و اعتبر ذلك نوعا من الاستهلاك و التّخذير، لهذا تستوجب الدّعوة لـ:
- العزم على مكافحة الفساد في مختلف المؤسّسات و الهياكل الحكومية و غير الحكومية، و وضع هذا الموضوع على سلّم أولويات الاهتمام.
- خلق هيئة جديدة لمكافحة الفساد مع إعطائها صلاحيات كبيرة تضمن لها حقّ دخول جميع المؤسّسات، و إصدار مذكّرات الحجز و التّوقيف بحقّ الفاسدين.
- تجريم كلّ أشكال الفساد، و محاسبة مرتكبيه مهما كانت مواقهم، و معاقبتهم وفقا للتشريعات القضائية و القانونية.
- التّشاور و المناقشة مع كلّ الأطراف و الجهات المعنية لإعداد نصوص اتّفاقية أو تحيين نصوص متعلّقة بمكافحة الفساد بكلّ أنماطه، مع الالتزام بتنفيذ هذه النّصوص الاتّفاقية و وضع آليات تكفل لها الاستمرارية.
- استرداد المنقولات و الأموال المهرّبة.
- وضع خطط  و برامج كفيلة بمواجهة الضّغوطات و التّهديدات التي تتعرّض لها الأجهزة المسؤولة عند محاربة الفساد.
- ضمان مشاركة المجتمع المدني في مكافحة الفساد.
- تطوير نظام اختيار و تعيين و ترقية العاملين.
- تطبيق مبدإ من "من أين لك هذا؟"
- فضح الفاسدين  و التّشهير بهم حتّى يفقدوا مكانتهم الاجتماعية.
- إعطاء دور كبير لمؤسّسات المجتمع المدني في مكافحة الفساد.
- تشريك الإعلام في التّرويج لمكافحة الفساد، و تعزيز الشّفافية، و نشر الثّقافة المناهضة للفساد.
- تطهيرالمؤسّسات من الفاسدين بدءا بكبار موظّفيها فصغاؤها.
- حتمية التّعاون الدولي و الالتزام بالاتفاقيات المبرمة بخصوص مكافحة الفساد.
- وضع برامج ثقافية و تعليمية لتوعية النشء بمخاطر الفساد و سبل مكافحته.
- إلقاء القبض على كبار المفسدين لتأكيد جدّية العمل على محاربة الفساد و خلق مصداقية جماهرية.
- تقديم الضّمانات و الحماية لصغار الموظّفين الذين يثبتون فساد مدرائهم بالحجّة و البرهان حتى لا يقعوا عرضة للتهديد في وظائفهم.

0/Post a Comment/Comments