عيد الشغل و المواطنة


هلّ علينا عيد الشغل هذه السّنة مخالفا لما تعوّدناه من أشكال الاحتفال بهذه المناسبة في السّنوات الخوالي . فلأوّل مرّة في تاريخ تونس ، حتّى بعد ثورة 14 جانفي ، يستعدّ لهذا الحدث كلّ المنظمات النّقابية ومختلف الأطياف السّياسية ليتجمهروا ألوفا مؤلّفة في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة رافعين شعارا جامعا ألا وهو: " استحقاقات الثورة والوحدة الوطنية " . والأرقى من كلّ ذلك ألاّ تُسجّل ولو حالة شغب وحيدة في هذه الجماهير العارمة ممّا أضفى على هذه التّظاهرة رونقا حضاريّا أكّد أنّ الشّعب التّونسي قادر على أن يتجاوز أزماته متى تعلقت همّته بكلّ أواصر المدنية التي هي أهمّ مكسب حقّقته تونس الحديثة.         و رغم هذه الأجواء الاحتفالية البهيجة نجد أنفسنا أمام إشكاليات محيّرة من قبيل: ماذا حقّقنا من استحقاقات الثورة حتّى نفرح كلّ هذا الفرح؟ وكيف السّبيل إلى الوفاء بكلّ مطالب الشّعب التونسي وقد قامت من أجلها الثورة؟ ومن هو الطرف المؤهّل لتحقيق حلم كل التونسيين؟

لا أخفي أنّني أدركت يوم غرّة ماي 2012 بنظرة قاتمة جعلتني أترنّم بقول المتنبّي:
" عيد بأيّة حال عدت يا عيد // بما مضى أم لأمر فيك تجديد "
وكيف لا تكون النظرة سوداوية والبلد يتخبّط في أزمة سياسية خانقة على وشك أن تأكل الأخضر واليابس ما دام وقودها الصراع الإيديولوجي بين إسلاميّ وعلمانيّ أو سلفيّ          و حداثيّ ، ودافعها التّدهور الاقتصادي من خلال الفشل في تحقيق التنمية التي ترجّاها الشعب التونسي وخاصّة منهم الشّباب ، ومحرّكها التّطاحن السّياسي عبر المزايدة بين الموالاة والمعارضة ، ومؤشّرها التّأزّم الاجتماعي من خلال انسداد أفق المواطن البسيط الذي اكتوى بنار الارتفاع الصّاروخي للأسعار بما ضرب في العمق مقدرته الشّرائية، ومن ثمّة قضى على بصيص الاستقرار الذي كان يروم تكريسه . فأين الثورة من كلّ هذه الرّواسب ونحن نرى الحكومة تتّهم المعارضة بعرقلة عملية الإصلاح ، ونجد المعارضة تحمّل المسؤولية للحكومة على فشلها في الإصلاح ، وبينهما يتمزّق المواطن العادي بين الأمل في التغيير والمؤشّرات الواقعية التي لا تبشّر بخير؟ و في اعتقادي أنّ الجميع مسؤولون كلّ من موقعه عن تردّي الأوضاع في بلادنا عقب انتخابات 23 أكتوبر . ذلك أنّ الحكومة وقعت في أخطاء عكست تذبذبها في معالجة أهمّ الملفّات على السّاحة الوطنية كملفّي الشّهداء والجرحى أو التشغيل ، وفشلها ــ على الأقلّ إلى الآن ــ اقتصاديا في مجال التنمية وإيقاف نزيف الأسعار . في حين سقطت المعارضة في ردّالفعل بعد هزيمتها في الانتخابات، فتحوّلت معرقلا لكلّ خيارات الحكومة من خلال إذكاء الإنفلاتين الأمني والإداري، وطفرة المطلبية من اعتصامات وإضرابات، وطغيان المزايدة في الخطاب السّياسي بين الطرفين عبر تبادل التّهم بما جعل العراك سيّد الموقف عوض التّحاور في سبل معالجة الملفّات الشائكة . أمّا المواطن العادي فقد كان الأداة التي وظّفها هؤلاء وأولئك إلى درجة أنّ المجتمع انقسم نصفين متناقضين متنافرين بما يهدّد الوحدة الوطنية التي هي سمة جوهريّة غالبة على تونس ما بعد الاستعمار الفرنسي.

كان لا بدّ أن يتغلّب العقل بعد أن شارفنا على الهاوية في أعقاب أحداث شارع بورقيبة في ذكرى عيد الشهداء . وصار من اللازم أن يتبوّأ السّلم الاجتماعي الصدارة من جديد في تونس الثورة . ولن يكون ذلك إلاّ متى تّراجعنا عن كلّ أشكال التعنيف اللفظي منه والجسدي، لأنّ الفتنة لا تخدم إلاّ أعداء الثورة من أزلام العهد البائد في الدّاخل والخارج . فلا نجعل الحماس ينساق بنا إلى مزالق الحرب الأهلية التي لن تكون إلاّ وبالا على الوطن بكلّ مكوناته، وأخالني أرى أعداء الوطن وقد صُدموا من هذا التّآلف الجماهيري في شارع بورقيبة الذي ضمّ الجميع يوم عيد الشغل ويسعهم أجمعين على اختلاف أطرهم و توجّهاتهم في كلّ المناسبات الوطنية ماداموا متشبّثين بجذورهم التونسية، رافعين لشعار الوحدة الوطنية حتّى أنّني اندفعت أتغنّى بقول المتنبّي:
" هنيئا لك العيد الذي أنت عيده // وعيد لمن سمّى و ضحّى وعيّدا ".

   آن للائتلاف الحاكم أن يستجمع قواه فيُسطّر أولوياته في ممارسة السلطة على قاعدة الوفاق لا الأغلبية بما يحقّق أهداف الثورة . وصار لزاما على المعارضة أن تنأى بنفسها عن المزايدات وتنخرط في العملية السياسية بكلّ تفاعل بنّاء بما يمليه عليها الواجب الوطني.     و أصبح من الضروري أن ينخرط المواطن في مكوّنات المجتمع المدنيّ بما يجعله حاضرا فعّالا وإيجابيا في كلّ ما يهمّه من الشأن العام بما يجعله مكرّسا لمبدأ المواطنة. فالأكيد أنّ تونس للجميع، وهي بالضرورة تسع الجميع ما دام الحقّ مبدأهم والفعل ديدنهم و الصدق جوهرهم .
بقلم: فتحي الفقيه سعيد

0/Post a Comment/Comments