الشأن السياسي في تراجع.. والشأن الديني في الصدارة


بقلم: نور الدين عاشور -  لوحظ في الآونة الأخيرة أن اهتمامات الساحة التونسية عموما بصدد التحول تدريجيا نحو مسائل ذات إطار ديني بعد أن كانت تلك الاهتمامات مركزة على الثورة،
ثم الانفلات الأمني وفتح مواضيع نقاش حول العلمانية والتيارات الإسلامية، وتخللت ذلك حمّى إنشاء الأحزاب والنقاشات حول هوية البلاد، ثم جاءت الانتخابات وحملتها وما أسفرت عنه من خريطة سياسية جديدة وما انبثق عنها من ائتلاف حكومي.
 تلك المواضيع كانت في معظمها إما نتيجة رغبة في طرحها باعتبار أنها كانت محظورة طيلة العقود الماضية وإما أن سياقها كان آنيا وذلك ما يفسر تراجعها على الساحة.
 لكن التحول نحو الشأن الديني يحمل في طياته انزلاقا تكمن خطورته في التأثيرات المحتملة بفعل الخروج عن سياق محدّد واحتمالات وجود نوايا قد ترى في الانزلاق صرفا للأنظار عن الحاضر، وفي نفس الوقت العمل على إعادة قولبة الرأي العام -أو على الأقل غالبيته- على أسس جديدة تبدأ من حيث انتهت إليه النقاشات حول الهوية أي التمسك بالهوية الإسلامية ومن حيث انتهت الانتخابات بتأكيد قوة قاعدة حزب النهضة وزعامتها للتيار الإسلامي إن حاضرا أو مستقبلا.
 من ضحالة أحزاب وأدبيات ونشاط سياسي أقرب إلى الهواية منه إلى الاحتراف صعدت النهضة ومن ورائها التيارات الإسلامية من سلفية وغيرها وهو ما مثل ضربة للعلمانية وحدّا فاصلا بين مجتمع كان يُنظر إليه متفتحا ومنفتحا.. هذا الصعود كان بمثابة المنبّه الذي فتح بابا كان شبه موصد منذ الاستقلال للخوض والتوسع والتعمق في كل ما هو ديني.
 إنها ثاني ردّة فعل (بعد نتائج الانتخابات) بخصوص ما كان يعرف بـ»الإسلام الرّسمي» وهو الإطار الذي عايش تفاصيله التونسيون بمختلف توجهاتهم طيلة عقود، ويبدو أن الفرصة قد حانت لتخليص الإسلام مما علق به من صبغة رسمية لينطلق «الفاعلون» في مراجعة وإعادة قراءة الشأن الديني في تونس.
 أما الوسائل والطرق فكلها مباحة على ما يبدو ما دامت المسألة «حياتية» فهناك محاولات محلية بجسّ النبض من خلال تصريحات حول «الخلافة السادسة»، ومحاولة إصابة الهدف عندما دعا أحدهم إلى تطبيق حدّ الحرابة، ثم عبر الدفع بالمنقبات إلى الجامعة وإثارة ضجة حول النقاب والعمل على تمريره كواقع وأمر عاديّ وبديهي في بلد مسلم، إضافة إلى ذلك جاءت تعزيزات من الخارج ممثلة في الدعاة والدعاة الجدد، وكأننا بصدد أسلمة مجتمع فقد جميع مقوماته ومرجعياته.
 إنها عودة دون استئذان لمسألة الهوية الإسلامية وإعادة طرحها ليس كإشكالية بقدر ما أصبحت تمثل هاجسا لدى جانب من التونسيين الذين أضحوا يعتبرون أنفسهم نواة لهوية إسلامية عربية، بعد أن كانت الهوية في السابق عربية إسلامية.
 ولا شك أن نوعية المواضيع المطروحة كفيلة بالتدليل على وجود رغبة في مراجعة كلية لعديد المواضيع والمسائل وإعادة طرحها بعد أن كانت شبه محسومة في السابق.
 ولا يعني هذا أنه لا يجب فتح باب الاجتهاد بل لا بد من الاجتهاد في عصر متغيّر، فيه عديد التحديات والإشكاليات على الصعيد الشخصي والعام وفي مجالات متعددة فكرية وثقافية واقتصادية، لكن ما يُخشى منه هو الانزلاق نحو الفتنة ولعل ما تشهده بعض المساجد من ردّات فعل بخصوص مواقف ومواضيع مطروحة خير مثال على هذه الاحتمالات.
 إذن نحن أمام أمرين الأول هو رغبة في تنشيط الشأن الديني ومحاولة إضفاء حركية عليه بحثا عن علاقة تفاعلية بين المواطن والمواضيع التي تكاد تطرح لأول مرة في تونس منذ الاستقلال.. وثانيا نحن أمام إعادة تشكيل الساحة التونسية بعد تراجع الأحزاب والتيارات اليسارية والعروبية، وانسداد الآفاق أمام أحزاب وسط بفعل التشرذم أو غياب مرجعية فكرية تكون بديلا في المستقبل.
 ويعني هذا أن المجتمع بصدد الانتقال من مرحلة الاستقطاب السياسي والإيديولوجي إلى الاستقطاب الديني المباشر، وحركة النهضة هي أبرز مستفيد حيث أن التداخل بين السياسي والديني يشكل بالنسبة لها عنصر مناعة بخلاف بقية الأحزاب التي تنشط في سياق أفول الايديولوجيات وتراجع الفكر القومي العربي، واتضاح تناقض قطاع كبير من التونسيين مع كل ما هو علماني، أو تشتم منه رائحة العلمانية.
 أما الطرف الثاني المستفيد من التحوّل إلى الشأن الديني فهم السلفيون الذين يهمّهم طرح كل المواضيع وإعادة قولبة تفكير المواطن التونسي في اتجاه معيّن واضح يقبل بالمسلمات ويحدّ من النقد والجدل.
 ترى ما هي المسافة التي يمكن قياسها بين ما صرّح به وزير الثقافة بشأن الرغبة في الحفاظ على «الذوق العام» من خلال رفض مشاركة فنانين معينين في مهرجان قرطاج وبين -مثلا- إبراز ختان البنات ومحاولة الترغيب فيه.. إنها مسافة لا تكاد تتجاوز واحدا على مليون من المليمتر أي المسافة منعدمة بالعين المجردة.
 نخشى أن تكون تلاقيح الدعاة والدعاة الجدد الوافدين غير مناسبة للجسد للتونسي، ونخشى أكثر الفتنة والانقسام والتشتت.. هذا في مرحلة أولى، مثلما نخشى عودة بروز المذهبية، ثم صراعا مذهبيا في مرحلة ثانية بوجود معطى يلفه الغموض وهو الخلايا الشيعية خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المدّ السلفي جزء من إستراتيجية مواجهة الهلال الشيعي النابعة من الخليج.
 فمن قرأ حسابا للمرحلتين الأولى والثانية؟

0/Post a Comment/Comments