تقاسم الثّورة التّونسية


مقال رائع بقلم وليد الشريف صدر في الصباح  نرجو منكم قراءته
-------------------
ما إن بدأ غبار معركة الثورة ينجلي و تأكّد سحق العدوّ و فراره و مطاردة فلوله، إلى أن صاحت «البقيّة، البقيّة»، و أيقن الجمع بالنصر، حتى انقضّ من كان بالرّبوة في مأمن، يرقب و يعد بحماية الظهور،
على الغنائم يبتغي نصيبه مسرعا قبل وصول الآخرين. و بينما دلف من حارب و حقّق 
النصر لخيمته ليستريح و يشرب نخب انتصاره و يحلم بغد حافل، تقاسم السّاحة جماعات من العكاظيّين انبرت تنظم الملاحم و تنتصر لبطولة قبائلها.
هذه قراءة للإثنية الفكريّة في ما بعد الثورة.
الجماعة الأولى:
هذه جماعة استلّ زعيمها من قاع جيبه الخلفي خريطة صفراء رسمتها الشوفينيّة الواهمة. و طفق يلعن الإمبرياليّة و الرأسماليّة و الغرب المتآمر و الاستثمار الأعجمي و الثقافة الغربيّة الدخيلة متغافلا عن جهل أو عن خبث أن من يلعن هو نفسه الذي أهداه أصلا هذه المفردات و هذه الإيديولوجيّات وأدوات التحليل التي يستعملها. و عندما همّ بالعودة لمنزله امتطى سيارته من نوع «عنترة» و في منزله فتح تلفازه نوع «أوس» و شغّل حاسوبه نوع « قريش» بعد أن أضاء الغرفة مصباح من نوع «المتنبّي». و لا فائدة من إطالة التفاصيل فهو آل على نفسه أن لا يلتجيءأ إلا للمنتجات العربيّة القحّة كي يساهم في إفلاس الأعاجم.
ثم هو يخلو إلى نفسه مسترسلا في الخيال، فيحلو له أن يتصوّر أن الشباب الذي ثار في تونس يتحرّق شوقا اليوم لحضن أخيه السوداني في دارفور و عناق شقيقه اليمني الحوثي
الجماعة الثانية:
هذه جماعة أشهرت سيف الحلّ النهائي الواحد الأوحد الدائم. شعارها العيش في مجتمع فلكلوري. برهانها السلف الصالح وسعادة «المجتمع» الذي عاش في ظلّه. ألم تر غبطة هذا «المجتمع» عند مقتل عثمان! ثم ألم تر حبور هذا «المجتمع» عند مقتل علي! و من بعد ألم تر فرحة هذا «المجتمع» عند مقتل الحسين! أو لم تتفطّن إلى جودة الحياة في ظل الأمويّين و حجّاجهم! ألم يستثرك هناء العيش في حكم بني العبّاس و سفّاحهم ! أتنكر قرار العين في عهد المماليك ووحشيّتهم!...
وانبرت تلعن الغرب الكافر و بدعه . ثم آب كل لبيته فشغّل قرصا مضغوطا صنعه السلف الصالح. و أحسّ علّة فهرع للكشف عنها بآلة «السكنار» التي ورثها عن السلف الصالح. وأخيرا استلقى يسمع بعض حكم السلف الصالح تأتيه من خلال تلفاز السلف الصالح عبر القمر الصناعي للسلف الصالح.
وهذه الجماعة تتصوّر أن هذا الشباب الذي ثار إنما يتوق اليوم لا لإنتاج القوانين وإبداع المفاهيم و التصوّرات الجديدة، ولكن للتبصر في آراء فقهاء العهد العباسي والفاطمي والحفصي... وهذا الشباب هو في الحقيقة ينفر من فنون السينما والباليه والراب و السالسا و يتطلع للسلاميّات و الأذكار... وهذا الشباب قد ضاق ذرعا باقتصاد عماده البنوك و البورصات والشركات الخفيّة الإسم و شهادات الاستثمار و سندات الخزينة و قوانين الميزانيّة و الضرائب و هو يرغب أن يحلّق في اقتصاد قوامه بيت مال المسلمين و الخراج و المرابحات...
وربما يسكره الحلم فتغمر خياله صور المجتمع و قد أصبح «مجتمع» سلف صالح و قوارب الفارّين من جحيم الديمقراطيّة الغربيّة الفاجرة و سعير حريّاتها المارقة ترسو على شواطئ السلف الصالح بحثا عن الخير و العدل و الدفء. و هو يجتبي الجزية جذلا مسرورا منتظرا بشرى فتح تأتيه من أقاصي الأرض.
وفئة من هذه الجماعة شعارها «أفعال لا أقوال» بادرت بإغلاق بعض المواخير. فقامت بثورتها على ديكتاتورها كما قام الشباب بثورته على ديكتاتوره. فكل حسب طموحه و طينته ألم يقل المتنبّي :
«عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ
وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها
وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ «
الجماعة الثالثة:
هذه الجماعة أتى زعيمها ممسكا منجلا في يمينه و مطرقة في يساره. و انهال على رأس المال سبّا و شتما و لعن الخوصصة و الاستثمار الأجنبي و الدول التوسعيّة و الشركات المتعدّدة الجنسيات. ثم عرج إلى فضاء تجاري كبير فتبضّع ما شاء له التبضّع مختارا من السلع أجودها أو أرخصها ثمنا حامدا الله على ديمقراطيّة الاختيار. ثم قفل إلى منزله مستقلّا حافلة لشركة نقل خاصّة ممتنّا للمولى على ما أنعم من منافسة جعلته لا ينتظر الساعات و لا ينحشر مع الجموع واقفا منتظرا فرج الهبوط. و لعلّه أمضى ساعات متحدّثا في الهاتف الجوّال مطمئنّا لزهد ثمن الاتصال الذي فرضته قوانين المنافسة وقواعد اقتصاد السوق.
ثم ها هو يهجع إلى فراشه فيأخذه خدر الأحلام و يعتقد جازما أن الثورة قد صنعت في المعامل و زرعت في الحقول. وأن شباب الفيس بوك إنما كان يرجع آخر يوم العمل من المصانع و الحقول ليواصل النضال و التحرّر خلف الحواسيب. فتونس هي مصانع ضخمة تلتهم فيها الآلة الإنسان و حقول شاسعة تروى بدم الفلاح.
و هو يرى أن الشباب إن ثار فذلك لبغضه حبّ الامتلاك وأحلام الثروة و المبادرة الخاصّة و النجاح الشخصي و استهلاك الكماليّات. و إنما يحلم بالملكيّة المشاعة فإن لم يجد فالاشتراكيّة و الملكيّة الشعبيّة لأدوات الإنتاج.
و هو لا ينفكّ يستسلم لمداعبة حلمه حتى يتمنّاه واقعا رغم برهان فشله الذي يرتقي إلى صحّة الحقيقة الرياضيّة المطلقة.
الجماعة الرابعة:
هذه جماعة تدعو ليلا نهارا لليقظة و الاحتياط و التثبّت والتلفّت و إطراق السمع و حدّة البصر و التشمّم و الظنّ و الريبة و التحقّق و التمحّص و الاستنطاق وتشكيل لجان حماية لما في نفوسنا.
و هي تعتقد أن كل ما يظهر في النهار دبّر بالليل و أن ما من شيء يقع إلا و وراءه شيطان أعظم لا تفوته شاردة و لا واردة يضع الرجل المناسب في المكان المناسب ليقول القول المناسب فيحدث الأثر المناسب فيجني الثمرة المناسبة لصالحه.
ما تشترك فيه الجماعات الأربع
لئن بدت أفكارها متنافرة و مشاربها مختلفة و تواريخها متضادّة فهي في الحقيقة تعتنق نفس المبدأ و تعتمد نفس الأسلوب. فكلّها أجمعت أن الشباب الذي قام بالثورة خال من كل إيديولوجيّة يتبعها و هو لا يقف على أرضيّة فكريّة تسنده وإن ما حدث هو أشبه بحادثة تاريخيّة أو طبيعيّة. فهبّت لتهديه إيديولوجيّته و لتزوّده بأدواته الفكريّة.
و حتى إن ساورها الشكّ في وجاهة أفكارها أو في حاجة شباب الثورة لها فهي لا يمكن أن تعرض إلا أصولها التجاريّة التي تملكها و انتصبت انتصاب العشوائيّين تنادي على سلعتها بالشعارات المدغدغة للعواطف. ديدنها العميق أنّه حتى و لو غيّر الله ما بها فهي لن تغيّر ما بأنفسها.
الجماعة الممتازة:
هذه الجماعة هي الأكثر عددا و الأوفر صحّة و الأصفى ذهنا و الأرقى أخلاقا و الأطول مستقبلا و الأعلى صوتا و الأشرف تاريخا في المستقبل.
هذه الجماعة ليس في حوزتها أوراق متهرّئة قديمة و لا تعشق الفلكلور و لا تحنّ للتجارب الفاشلة السّاحقة و لا هي مصابة بجنون الارتياب. هي أرادت أن تنتصر للإنسان، أرادت أن تحيا بطريقة أفضل، أرادت أن تحبّ بطريقة أفضل، أرادت أن تعانق شوق الحياة، أرادت أن تصعد الجبال، أرادت أن تحلّق كطيف النسيم.
هي غيّرت ما بنفس المجتمع فغيّر الله ما به. هي تقول للشرّ «زل» فيزول لتكون هي. لا تبتغي ضوضاء الشعارات و إنما تعشق صخب الحياة. هي تصبو للإنعتاق و الاستهلاك و المرح و الحبور و الفكاهة و العمل الجادّ و الفنّ. و تهرب من الرّداءة والتكرار و السماجة و الكبت و الإخفاء و التكميم و التخوّف. هذه أفكارها و هذه إيديولوجيّتها. فما أعظمها من أفكار و ما أبهجها من إيديولوجيا.
هذه الجماعة الممتازة لن تنخرط في مساجلات فكريّة عقيمة مع الجماعات الأربع الأولى فهي تعرف أن الاستبداد مرّ من هناك. و لن تواجهها إلا بشعار وحيد يمقت الضجر و إضاعة الوقت و الدم الثقيل : «زولوا».

0/Post a Comment/Comments