معتقل عاطفي

أجد نفسي أخيرا خارج الأسوار،أنفض أيامي التي قضيتها داخل المعتقل العاطفي،أتحسس الخدوش المرتسمة على بياض روحي،أسوي خصلات أحاسيسي المبعثرة،أعيد ارتداء كعبي العالي وأطلق جسدي لرياح القلق تخاصره،تراوده برغبة متوحشة كما لو كان الجسد الأنثوي الوحيد العابر في أرصفة الحياة... واعترف في هذه اللحظة المتقدمة من الندم أنني ظللت طوال فترة اعتقالي أرفض البوح بسوابقي العاطفية،ظل اسمكَ معلقا على أوردتي وظلت ذكرياتك تسري في مياهي السرية بتواطؤ رهيب مع ذلك العقل الجماعي الذي يمارس فعله حتى في أقصى حالات توهجي الثوري... ظللت رغم جلسات التعذيب النفسي أنكر كل البيانات والمناشير العشقية القديمة التي واجهني بها زوجي حفاظا على أمني العاطفي وخوفا من خطر عزلي عن غرفة النوم الفاخرة التي اشتراها لأجلي وخوفا من حرماني من حالة الترف التي أجدها وأنا مستلقية في قاعة الجلوس الوثيرة...رفضت أن أعترف بحبي لك حتى لا أعود مجددا إلى وحدتي وفراشي الضيق اليتيم وأحلامي المتقشفة المبتورة ومشهد الحفل الجنائزي الذي أقيم على نخبك ذات رحيل أخير إلى أرض سفلية،ضيقة أنت الذي طالما قفزتَ فوق الحواجز الغيبية والمعلومة وأعلنت انتصارك للحياة المعربدة... لم أكن أدري أن مجرد ذكر اسمك وصمة عار في سجلي وأنه كاف كي تتخذ بطاقتي البيضاء لونا رماديا يهيء لهطول أمطار القرف والاحتجاج داخل العش الزوجي،داخل مدجنة المشاعر ونوازع النفس الأمارة بالحب... كان حبنا حسب منطق القطط المنزلية الأليفة محتاجا إلى مأوى،إلى جدران وستائر ومائدة نتقاسم عليها أطباق السعادة ومطبخ نختبر داخله وصفات الامتلاء العاطفي ولم تكن أنت من عشاق الجدران والستائر ولا من أولئك الذين يقلمون أظافر مشاعرهم ويسجنون الهوى داخل قوارير وكؤوس من الكريستال الأرستقراطي... حبنا نما داخل أحراش الرغبة في تجاوز الوصايا العشر وقبضة الأصابع العشر وألفة العشائر...كان مشردا في جغرافيا الحرية،كان لامنتميا في زمن فرض ثقافة الانتماء إلى أب عاطفي جاهز سلفا... جريمتنا المشتركة الكبرى أننا قتلنا هذا الأب بغلُ جميل وسادية تليق بكبار العقلاء ومضينا نشطب كل المعادلات السلفية ونقوم بأكبر عمل إجرامي في تاريخ الذاكرة العشقية: تصفية كل الأيدي القذرة التي امتهنت مهمة تعكير المياه الداخلية المرتدة عن سلطة المستنقعات... حبنا حسب منطق الطيور لم يكن محتاجا إلى قفص ذهبي ليحيا...كان محتاجا إلى جناحين متمردين كي يحلق أعلى وأعلى في مدارات الجنون ومحتاجا إلى منقار يحفر عميقا في أفق التجربة الإنسانية كي يجترح أخيرا حكمته الفردية ويمضي إلى حيث الحقيقة عارية من أوراق التوت الماكرة... وأعترف في هذه اللحظة المتقدمة من الندم أنني لم أكن أتقن بثُ الفوضى في العادات اليومية والشهرية إلا في حضورك...بعدك انتظمت دقائقي داخل دائرة الآخرين المغلقة وخنت زمنك الفوضوي الرائع...عدت إليهم جسدا ملفُقا يقتات من موائد جماعية تبسط من أجل روح الجماعة وترفع في وجوه الأفراد المارقين...عدت تائبة منك ومن آثام خلاص أرخى جناحيه وطار لحظة التحفَك الغياب... وكان أن دخلتُ المعتقل العاطفي من أجل أن تباركني روح الأب لكنهم لمحوك تغتسل في أحداق حلمي وتسكب دمعي بين كفيك...لمحوك في بعض المناشير العشقية التي خبأتُها تحت وسادة أحزاني...وكان أن اعترفتُ بأنك لاتزال تقيم..هنا..داخل عش لم يكن أبدا لك..وكان أن اعترفت بعد أن قرروا نبش مثواك بحثا عني هناك!!! ها أنا الآن بعد أن أخرجوني من المعتقل العاطفي تلاحقني لعناتهم..ها أنا جسد لا ينتمي،تخاصره الريح في شوارع القلق وقد أنكرتني أقفاصهم وأنكرتني سماؤك الواسعة المجنونة..أنا الآن لا أنتمي إلا إليَ معتقل عاطفي بقلم:إيمان عمارة ربيع 2010

0/Post a Comment/Comments