انتهاك الخصوصيات المعمارية بمدينة المهدية

مدينة المهديّة عرفت منذ القدم بطابعها المعماري المميّز، فغالبيّة المنازل ذات نمط هندسي عتيق مستوحى جذوره من العمارة العربية و التركية، حيث يطلق على المنزل المهدوي " دار عربي " وهو متكوّن من سقيفتين و صحن " وسط الدار " تحيط به غرف مستطيلة متقابلة و" دويرة " التي تتضــمّــن المطبــــخ و بيت الخزين أو المقصورة المخصّصة لخزن المؤونة، و بئر و فسقية، و دورة المياه التي يطلق عليها " المطهرة ". ظاهرة خطيرة سلبية و مؤسفة للغاية استفحلت في السّنوات الأخيرة إثر تحوّل مدينة المهدية إلى منطقة جذب سياحي كبير، و تتمثّل في بيع المنازل التّقليديـة، أي" الدّيار العربي " المتواجدة بالمدينة العتيقة، وهي المدينة العبيدية الرّاسخة في القدم منذ العهد الفاطمي و التي تعرف الآن بـمنطقة " برج الرأس ". لم يصمد العديد من الأهالي البسطاء أمام الإغراءات المالية الكبيرة التي تعرض عليهم من قبل الأثرياء و رجال الأعمال سواء كانوا من داخل البلاد التونسية أو خارجها، إذ أنّ منزلا عاديا يباع بآلاف الدّنانير، و كلّما كان المنزل أقرب من البحر كلما ارتفع سعره إلى حدّ أن يصل سعر المنزل المشرف على البحر سعرا خياليا يضاهي أو يفوق منزلا عصريا من طراز رفيع بجهة راقية. لكن مازال من الأهالي من بقي متشبّثا بالمسكن الذي ورثه صاغرا عن كابر، و لم يرضخ لتلك الإغراءات المالية إيمانا منه بأن التخلي عن منزله و هو بمثابة اجتثاث من جذوره، فتراه يتعهّد منزل أجداده بالصّيانة حفاظا على رونقه، و يتفنّن في تزويقه و زخرفته بكل اعتزاز إضفاء لمزيد من الجمال و البهاء. قريبا كان المتجوّل بمدينة المهدية و خصوصا المدينة العتيقــة أو ما يطلــق عليهــا بـ " برج الرّأس " يلاحظ كثرة الأنهج الضّيقة و الأزقّة الملتوية حيث تكون المنازل العتيقة متلاصقة بل متعانقة عناقا أبديا معبّرا عن اللحمة الوثيقة بين الأجوار الذين تبرط بينهم أسمى وشائج المحبّة و الودّ و الإخاء، و غالبية المنازل أفقية و أرضيّة، فقلّ و نذر أن تجد سابقا طابقا علويا فوق الدّار العربي، و حتّى إن وجد يكون لنفس مالك المنزل الأرضي أو لأحد أبنائه، و ذلك حفاظا على حرمة المنزل التي لا يسمح بانتهاكها من قبل العائلات المحافظة. أمّا اليوم، و في خضمّ توسّع العائلات و تعدّد أبنائها الذين يطوقون إلى الاستقلالية، انتشرت البناءات العمودية فوق المنازل العتيقة وهو ما يفقد خصوصيّتها و يؤثّر سلبا على ظروفها السّكنية حيث يصبح المبنى العلوي غير المدروس جيدا من النّاحية الهندسية حاجزا يعيق تهوئة و إضاءة المبنى السفلي، إلى حدّ أن يصل إلى حجب أشعّة الشّمس داخله، وهو ما يشكّل تهديدا للظروف السكنية الصّحّيّة. مجابهة لأزمة السّكن نتيجة لتضخّم عدد السّكان و تقلّص الأراضي المعدّة للبناء، سمح القانون بالتّرخيص للبناءات العمودية التي لا تتجاوز طابقا علويا وحيدا في الأنهج و الأزقّة الضّيقة وفق شروط و مقاييس فنّية معيّنة، إلا أنّنا نلاحظ أنّ العديد من المنازل التي نشئت منها و التي بصدد الإنشاء إلى حدّ الآن لا تستجيب لأيّ معايير فنية، و لا أدري كيف رخّص لأصحابها ببنائها، و الأدهى و الأمرّ من كلّ هذا أنّ أحد المباني على مشارف أمتار قليلة من مقرّ البلديّة، و بالتّحديد في نهج محمّد التّركي،حيث تجاوز صاحبه ما هو مسموح به و تعمّد إنشاء طابق ثالث بدون رخصة ممّا حدا ببعض الأجوار المتضرّرين من رفع عرائض إلى البلديّة و لم تتّخذ البلديّة أي إجراء بخلاف إيقاف الأشغال التي تسير خلسة كلّما سنحت الفرصة مع أنّ القانون يقتضي في مثل هذا الحال اتّخاذ قرار هدم بسبب الأضرار الكبيرة التي لحقت بالمنازل المجاورة التي حجب عنها الهواء و الشّمس بخلاف أنّها أصبحت مكشوفة، أمّا على مرمى حجر من مقرّ صيانة المدينة بالمدينة العتيقة و بالتّحديد في بطحاء سيدي بن فضل، أقام أحد المتساكنين مبنى من ثلاث طوابق و لم تحرّك البلديّة و لا جمعية صيانة المدينة ساكنا ضدّه، رغم أنّ العلو مضرّ بالأجوار و مخلّ بجمالية المدينة العتيقة ذات الطّابع المعماري المميّز، الذي أصبح يفقد خصوصيّته شيئا فشيئا منذ بناء العمارة الشّاهقة وراء المغازة العامّة و التي تتراءى للنّاظر أنّها في غير محلّها بسبب عدم انسجامها مع المنظر العام للمدينة لا من حيث الطّراز المعماري و لا من حيث ارتفاعها غير المتناسق مع المباني المحيطة بها. الزّائر إلى مدينة المهديّة لا بدّ أن تستوقفه ساحة 7 نوفمبر ليقف بإجلال و إكبار أمام أهمّ معلم أثري تمتاز به مدينة المهديّة ألا وهو باب زويلة أو ما يطلق عليها بالسّقيفة الكحلاء التي مازالت شامخة رغم مرّ العصور، وهي الشّاهدة على مرور المعزّ لدين الله الفاطمي منها أثناء توجّهه إلى القاهرة فاتحا إيّاها، إلا أنّ النّافورة المنتصبة الآن أمام السّقيفة الكحلاء تنغّص على الزّائر استرساله في الغوص في أعماق التّاريخ التّليد، لأنّ هذه النّافورة اسم بدون مسمى باعتبارها معطّلة كامل فصول السّنة، وهي في تنافر صارخ مع خصوصيّة المكان، و لا تمثّل رمزا للمدينة لا من الناحية الجغرافية و لا من النّاحية التّاريخية هذا إلى جانب فقدانها لأي قيمة جماليّة باعتبار بساطة هندستها. أمّا إذا عزم الزّائر عبور السّقيفة الكحلاء ليستجلي عظمتها تشتّت انتباهه عربة بائع البخور المنتصبة في طرفها منذ سنين، و التي أباح صاحبها لنفسه استغلال عددا من دكّاتها لعرض بضاعته كأنّه مالكا إيّاها رغم أنّ هذا المعلم التّاريخي كشأن بقيّة المعالم الأثريّة من مقدّسات حضارتنا القوميّة، و التّرخيص لهذا التّاجر أو غيره بالانتصاب في المعالم التّاريخية يعتبر انتهاكا لمقدّساتنا التّاريخيّة المنوطة بعهدتنا. أمّا إذا عبرنا السّقيفة الكحلاء بسلام - دون أن نصيب بضاعة صاحبنا التّاجر بسوء – في اتّجاه الجامع الكبير، تنشرح برؤية منطقة خضراء أمام الجامع وهي بمثابة الرّئة البيئيّة الفاصلة بين الحي السّكني و الحي التّجاري بالمدينة العتيقة، و تتوق لأن تستريح قليلا بهذه الحديقة عسى أن تلتقط أنفاسك قبل مواصلة الفسحة، إلا أنّك سرعان ما يتعكّر مزاجك عندما تكتشف أنّ هذا الفضاء العمومي ليست لك الحرّية المطلقة في الاستمتاع به، باعتباره تحت التّصرّف المطلق لصاحب مقهى المدينة الذي يستقبل فيه زبائنه، و إنّ كنت مصرّا على الاستراحة بهذه الحديقة فما عليك إلا أن تدفع الفاتورة الباهضة لما احتسيته من مشروب باعتبارك أنّك في مقهى سياحي رفيع، و ان تتحمّل عيناك و أذناك ما تراه و ما تسمعه من روّاد هذا المقهى الذين هم في الغالب من الأجانب أو من الفئات الشّبابيّة المتحرّرة الذين لا يعيرون قيمـة لمكارم الأخلاق، و لا يراعـون حرمــة و قداسة الجامع المقابل. إنّ المجلس البلدي هو سلطة محلّيّة منتخبة يصوغ مجتمعا يربطه نسيج من العلاقات الاجتماعيّة و التّنمويّة, و إذا ما كان للمدينة من نهوض فهو من خلال مدى صلاحيات و فاعليّة البلديّة, و بالتّالي فتطوير مفهوم البلديّة و فلسفتها ضروري لتصبح هده المؤسّسة أداة فاعلة فــــي تحقيق التنميـــــة و الإعمــــار و الانصهار الاجتماعي و التّفاعل الوطني في ظلّ اللامركزيّة الإداريّةٍِْْ, لذا فإنّي من موقعي كماطن غيور على مصلحة البلاد و العباد، أناشد المجلس البلدي أن يسعى إلى استعادة هيبته و ذلك يمزيد من التحلّي بروح القيادة و الشّفافيّة و بشخصيّة صفتها العلم و الثّقافة الواسعة و العلاقات المتحرّكة و اتّخاذ القرارات بفعل توافق الآراء، و رسم و تنفيذ مشاريع من أجل النّموّ و التطوّر و تحقيق الرّخاء، مع اعتبار المصلحة العامّة فوق كلّ اعتبار.

0/Post a Comment/Comments