في تطوّر علم النّفس

اختلط علم النّفس في القديم بالفلسفة و الطّبّ و الأدب. أ – الفلسفة: يُعرّف بعضهم الفلسفة بأنّها محاولة غزو مجاهيل الكون من بشر و غيره. و الأسئلة التي اعتاد الفيلسوف أن يطرحها على نفسه توضّح معالم ميدان بحثه: من أنا ؟ كيف أستطيع أن أميّز شخصي عمّا يحيط بي؟ ماذا أعرف ؟ ما هي علاقتي بمجموع الأشياء و ما هي علاقة الأشياء بعضها ببعض؟ إلخ... لذا يكون من الطّبيعي – داخل هذا الإطار العام من التّساؤل المستمر – أن تُحظى قضيّة الرّوح و علاقتها بالبدن بعناية مرموقة من طرف عدّة فلاسفة: جاء في عيّنة ابن سينا: هبطت إليك من المحلّ الأرفع *** ورقات ذات تدلّـل و تمنــع أنفت و ما أنست فلمّا واصلت *** لفت مجاورة الخراب البلقــع فلأيّ شيء أهبطت من شامخ *** عال إلى قعر الحضيض الأوضع إن كان أهبطها الإله لحكمـة *** طويت على الفذّ اللّبيب الأروع فهبوطها لا شكّ ضربـة لازم *** لتكون سامعة لما لم تسمــع و تعود عالمة بكلّ خفيّـــة *** في العالمين فخرقها لم يرقـع بعض أبيات من قصيدة فلسفيّة تصف النّفس في اتّصالها بالبدن و خروجها عنه، فهي تنزل من العالم العلوي و تهبط إلى الأرض حيث ينكشف لها ما لم تكن تعلم ثمّ تعود إلى السّماء معزّزة بعلم فوق علم و إدراك فوق إدراك. و رأي سقراط في النّفس يلخّصه أحمد أمين في كلمات قليلة: ( إنّ النّفس قبل اتّصالها بالبدن كانت عالمة بكلّ شيء. فلمّا اتّصلت بالجسم نسيت ما كانت تعلمه. و التّعليم إنّما هو تذكير بما كانت عالمة لا خلق للعلم. و كان سقراط يقول أنّ استطاع أن يعلّم عبدا له أدقّ نظريات الهندسة بمساعدات بسيطة و لو كان التّعليم خُلقا ما استطاع ذلك ). ب – الطّبّ: ما يُعرف بعلم النّفس المرضي الآن يشير إلى علاقة السيكولوجيا بالطّبّ. تُثبت عدّة أدلّة أنّ محاولات الشّفاء من الأمراض النّفسيّة بدأت أوّل ما بدأت في الطّبّ لا في أي دراسة علميّة جدّيّة للسّيكولوجيا. يقول أدمنوند هنتر E. Henter في قصّة الطّبّ: " إنّ عمليات التّنقيب في مستوطنات العصر الحجري كشفت النّقاب عن جماجم فيها ثقوب مستديرة. و تُعرف هذه بعمليّة الثّقب القحفي، و يرجّح أنّهم كانوا يجرونها لأنّهم كانوا يظنّون أنّهم يمكّنون الرّوح الشّرّيرة من الهرب، و بذلك ينقذون المريض من الاختلال العقلي. و يدلّ نموّ العظم حول تلك الثّقوب، على أنّ بعض المرضى عاشوا بعد تلك العمليات الجراحية. و يُعتقد أنّ تلك القطع التي كانت تُأخذ من جماجم التّعساء من هؤلاء المرضى ذوي الاضطرابات العصبيّة كانت تُتّخذ عقودا أو تعاويذ تُلبس لإبعاد الأرواح الشّرّيرة الأخرى." ج- الأدب: من الوظائف الّتي مارسها الأدب منذ القديم ما يشير إليه محمود تيمور فـي كتابـه ( الأدب الهادف ): " ... التّبصير بحقائق الفطرة و خفايا النّفس ..." ليس من الغريب حينئذ أن نجد في الآثار الأدبيّة مثل هذه الأقوال: " العقل حفظك الله أطول رقدة من العين و أحوج إلى الشّحذ من الشيب و أفقر إلى التّعاهد و أسرع إلى التغيّر و أدواؤه أقتل و أطبّاؤه أقلّ، فمن تداركه قبل التّفاقم أدرك أكثر حاجته، و من رامه بعد التّفاقم لم يدرك شيئا من حاجته..." ( الجاحظ ). - نستخلص من هذه الفقرات الثلاث: إنّ علم النّفس كان فعلا ضمن عدّة ميادين أخرى لكن اتّصاله بالفلسفة كان أشدّ. أمّا اليوم فالأمر أصبح مغايرا تماما: انفصل علم النّفس و استقلّ بذاته فأصبحت له أبحاث خاصة و طرق مميّزة. لكن كيف تمّت عمليّة الاستقلال هذه؟ بدأت بطيئة محتشمة شأنها شأن كلّ الثّورات العلميّة الّتي تقضي القرون في إزالة العراقيل من حولها و البرهنة على صحّة نظريتها، و الأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تُحصى حسبنا أن نذكر: 1) الصّعوبات التي لقيها انتشار نظام العدّ العشري في أروبا بالرّغم ما في هذا العلم الجديد من فوائد جمّة. 2) المعارضات و الاستنكارات التي حفّت بعلماء الفلك و أفكارهم الثّوريّة أمثال كوبرنيك و قاليلي. لم يشذ علم النّفس الجديد عن هذه القاعدة، بل كان مولودا بعد مخاض عسير. يمكن القول بأنّ عمليّة الانفصال هذه حصلت خلال القرن الثّامن عشر لكنّها لم تتركـّز و لم تتبلور إلا في النّصف الثّاني من القرن الماضي. إنّ أبرز ما يميّز علم النّفس الحديث عن علم النّفس التّقليدي هو أنّ الأبحاث القديمة في هذا المجال جمعت محتوى معرفيّا قائما أساسا على التّأمّلات النّظريّة، أمّا السيكولوجيا الحديثة فهي تقوم أساسا على الملاحظة و التّجربة ممّا يقرّ بها من العلوم الموضوعيّة. هذا التّحوّل الّذي طرأ على علم النّفس تتّصل جذوره بإطار أقدم و أعمّ. إنّ أبرز ما تتّصف به الفلسفة القديمة هو اهتمامها أساسا بما وراء الطّبيعة و اتّخاذها التأمل مسلكا في البحث. لكن موقف الإنسان من الكون و الحياة لم يتواصل بهذه الكيفية. جاء فلاسفة و على رأسهم باكون Bacon لم يخضعوا في هذا المجال للقديم، و قاوموه بعنف، و عملوا على إعطاء الأبحاث محتوى و منهجا جديدين: رأوا أنّ الأصل في المحتوى يجب أن يتّصل بالطّبيعة أمّا وسيلة البحث فهي المشاهدة و التّجربة. و من نتائج هذا التّحول الخطير في تاريخ البشريّة أن تقدّم العالم تقدّما كبيرا في بضعة قرون حتّى لم يعد هناك شكّ لدى العلماء في سلامة هذا الاتّجاه و ضرورة إثرائه بكلّ الوسائل. لنقصر حديثنا الان على علم النّفس و لننظر في أهمّ مناهجه. من الطّرائق المتّبعة في هذا الميدان طريقة تدعى الاستبطان. ما الاستبطان؟ سأتجنّب عمدا محاولة عرض تعريف للكلمة آملا في أن يُستجلى معناها من خلال تحليل بعض جوانبها. عمليّة الاستبطان قديمة جدّا – لها أبعاد فلسفيّة و دينيّة: أ - كلمة سقراط المشهورة " اعرف نفسك " تندرج في هذا المضمار. يجوز أن ننسب إليها دعوتنا إلى النّظر في ذواتنا قصد طرد الأفكار الخاطئة و المتناقضة و تعلّم السّيطرة على نزواتنا... فنكسب بذلك اتّزانا يكون أساسا للحكمة في الحياة. ب – و في القرآن الكريم " أوَ لم يتفكَّروا في أنفسهم ... " ( سورة الرّوم ) دعوات من هذا النّوع موجّهة إلى المسلم العاقل ليقوم وجوبا بالنّظر في المجال المعيّن حتّى تنكشف له حقائق تبرز عظمة الخالق. بالإضافة إلى هذه الينابيع الدّينيّة و الفلسفيّة التي حفزت الإنسان على النّظر في نفسه نلاحظ أنّه تعلّق على مرّ السّنين و العصور بهذه المعرفة لغاية المعرفة و تصوّر لها مجال بحث معيّن و أداة بحث معيّنة. كان مجال البحث هو الحياة الدّاخليّة أو كما قال وندت wundt أحد علماء النّفس الأفذاذ: " على السّيكولوجيا أن تبحث في ما تدعوه الخبرة الدّاخليّة، أعنـي مشاعرنـا و أحاسيسنا، تفكيرنا و إرادتنا..." و كانت أداة البحث هي ملاحظة الذّات نفسها بنفسها – يقول منتاني Montaigne: " أنت وحدك القادر على معرفة هل أنّك نذل أو قاس أو تقيّ. الغير يعجز عن رؤيتك و إنّما يتصوّرك عن طريق التّكهّن ". و لقد دافع عن أداة البحث هذه الكثير من العلماء و من أشهرهم مان دي بيران Maine de Biran الذي يقول: " الملاحظة في علم النّفس ليست إلا تأملا ". لكنّ هذه الطّريقة التي تعرف بالاستبطان وجدت معارضة من قبل من كانوا يحرصون على جعل السيكولوجيا أكثر موضوعيّة. و من أهمّ حججهم نذكر: أ - الاستبطان بهذه الكيفيّة لا يحقّق ظروف الملاحظة الجيّدة لأنّ الملاحظة ذات الصّبغة العلمية تشترط أن يكون الملاحِظ و الملاحظ شيئين مختلفين: يصعب على المستبطن أن يدقّق في ذاته وهو في غمرة غامرة من الفرح أو الخوف. ب- وحتّى في صورة الفصل بين العمليتين ( نحيا الحالة النّفسيّة ثمّ نتذكّرها في فترة لاحقة ) لا تبلغ الدّقّة منتهاها المطلوب: الذّكرى هي في نفس الوقت أفقر و أغنى من الحدث المعاش. لذا كان لا بدّ للسيكولوجيا أن تخطو خطوة حاسمة نحو الموضوعيّة، فأخذ الاستبطان شكلا يشبه من عدّة جوانب طريقة علماء الطّبيعة و البيولوجيا. كان الباحث يُرِي مثلا أحد الأفراد لونا أو يُسمِعه صوتا ثمّ يطلب إليه أن يسجّل انطباعاته العقليّة بأقصى ما يستطيع من الدّقّة. و هذا ما جعل الطّريقة تنعت باسم الاستبطان المثار، لذا فهي تعتبر شكلا من المناهج التّجريبيّة. و ممّا يثبت حرص أصحاب هذه الطّريقة على الصّبغة العلميّة في دراساتهم إخضاع عملهم لعدّة شروط منها: اختبار الدّارس من بين الخبراء المشهود لهم بالعلم و الأمانة، و إجراء الأبحاث داخل مختبرات مزوّدة بوسائل ضروريّة معيّنة. نتج عن هذا السّعي الجاد الوصول إلى حقائق طريفة ذات شأن كبير. في نطاق تجاربهم على الحواس لاحظ الباحثون أن في كلّ خبرة حسّيّة أكثر من عنصر واحد من عناصر الحسّ. فالرّجل العادي مثلا لا يدرك أنّ ما يدعوه مذاق النعناع هو في الواقع ثمرة الذّوق و الشمّ معا. لكن رغم الحصول على عدّة نتائج مقنعة و رغم سلامة عدّة أدوات لا تخلو هذه الطّريقة من عدّة مآخذ لا سبيل إلى إنكارها، حسبنا في هذا المجال أن نورد بعض ما يقوله الدّكتور سارجنت: أ – " إنّ من الصّعب علينا أن نفهم نتائج الاستبطان التي ينتهي إليها شخص آخر فهما كاملا لأنّ كلماته قد لا تؤدّي المعنى الذي ننتزعه منها على وجه الدّقّة." ب- " إنّ الطّريقة الاستبطانيّة مقصورة على صعيد الوعي فهي لا تأخذ بعين الاعتبار ذلك النّشاط الكبير الذي يقوم به العقل اللاواعي و الّذي لا يجوز إغفاله إذا ما أردنا أن نفهم حقيقة العمليات العقليّة." نستنتج باختصار أنّه يوجد تجاه هذه المدرسة السيكولوجيّة ( أي مدرسة الاستبطان ) موقفان متقابلان: يرى الفريق المناصر و على رأسه وليم جيمس William James أنّ العقل الواعي يتمّ اكتشاف طبيعته عن طريق الاستبطان ( وهو أن يتأمل الإنسان عقله و يسجّل كلّ ما يحصل عندما يفكّر أو يحسّ أو يريد ). أمّا الفريق المناهض و على رأسه وتسون Watson فهو ينكر بصراحة عدم صلوحيتها. لكن النّاظر المعتدل يرى بين هذين الموقفين موقفا معتدلا لا تبين فيه بوضوح نجاعة الاستبطان و حدوده. لا شكّ أن الاستبطان لم يعد في الوقت الحاضر الطريقة الوحيدة المتّبعة في الأبحاث السّيكولوجيّة، لكن ليس معنى هذا أنّه وقعت إزاحته كما أراد وتسون Watson. لا يزال يحتفظ بين علماء النّفس بدور ساعدت الانتقادات على ضبط معالمه، فهو يندرج ضمن الطّريقة التّجريبية و يأخذ أشكالا مختلفة منها أسئلة التّقييم الذاتي المستعملة في دراسة الشّخصيّة. و في إطار علم النّفس الطّبّي كذلك يشكّل الاستبطان عنصرا لا غنى عنه حتّى و عن أخضعت نتائجه للنّقد و المقارنة على ضوء ما يُجنى بواسطة الطّرق الأخرى.

0/Post a Comment/Comments