ما التّربيّة الحديثة؟

ما التّربيّة الحديثة؟


متى نشأت التّربيّة الحديثة؟ و ما هي ملامحها؟ ليس الحديث في موضوع النّشأة أمرا يسيرا لأنّ لكلّ باحث فيه نظرياته و مستنداته. فتبعا لكوْن التربية الحديثة – حسب تعريف المختصّين – تصوّرا يقوم على اعتبار المربّي محور العملية التّربويّة يجوز للبعض أن يروا أصولها تضرب في الماضي البعيد فتتّصل مثلا بسقراط الذي يجعل تلميذه – بفضل الطّريقة التّوليدية – متعلّما نشيطا قادرا على اكتشاف المعرفة بنفسه. كما يجوز للبعض الآخر طبعا و بشكل أوضح أن يروا في جان جاك روسو نقطة البداية لهذا التّوجّه لأنّه نادى في إطار فلسفة متماسكة بضرورة جعل الطّالب قطب الرّحى تكيّف من حوله المحتويات و الطّرق طبقا لخصائصه الطّبيعيّة. لكن جلّ الدّارسين لهذا المجال يتّفقون على قرن نشأة التّربية الحديثة بالوقت الذي أصبح فيه التّربويون مهمومين بمعرفة الطّفل معرفة بسيكولوجيّة دقيقة. و لقد كان لعلم النّفس عامّة و لعلم النّفي النّشوئي خاصّة الدّور الأساسي في توجيه العمل التّربوي الحديث منذ بداية القرن العشرين. ما هو علم النّفس النّشوئي؟ هو " فرع أو نوع من السيكولوجيا يستخدم الطّريقة التّوليديّة في دراسة الظّواهر العقليّة و السّلوك لدى الكائنات الحيّة أي أنّه يقوم بتوجيه البحث إلى منشأ تلك الظّواهر و سير تطوّرها و المراحل التي تجتازها على صعيد النّمو و التّكامل، يقتصر عادة علــى تناول مرحلتــي الطّفولـة و الشّبــاب، و يعتمد على النّشأة التّاريخيّة للظّاهرة أو السّلوك". ( علم النّفس – د. أسعد زروق ). و توضيحا لهذا التّعريف العامّ نذكر أمثلة مختلفة نحسب انّها كفيلة بإبراز أهمّية الحقائق التي جاد بها هذا الميدان على التّربية الحديثة في إعداد برامجها و تحديد أساليبها: أ) بالنّسبة لظاهرة الذّكاء. يكتسي الذّكاء في البداية صبغة " حسّيّة – حكيّة " ثمّ يمرّ بالمرحلة العمليّة و ينتهي إلى طور يكون فيه مجرّدا. ب) بالنّسبة لنمو المحصول اللّفظي تدلّ أبحاث سميث على أنّ المحصول اللّفضي يتدرّج من معدّل 3 كلمات في نهاية السّنة الأولى إلى معدّل 896 كلمة في نهاية السّنة الثّالثة حتّى تبلغ 2512 لفظا في نهاية العام السّادس. ج) بالنّسبة لظاهرة إدراك الزّمن " ... و يستطيع الطّفل في باكورة حياته أن يدرك الحاضر الذي يحيا في إطاره لاتّصاله المباشر بنشاطــه و سلوكــــه و لشدّة علاقته بعالمه الواقعي المحيط به، ثمّ يتطوّر به المر حينما ينشط خياله إلى إدراك مستقبله، ثمّ ينتهي إلى إدراك الأحداث الماضية في حياته و في حياة الآخرين، وهو لذلك يدرك ذلك الحاضر في يومه الرّاهن عندما يبلغ من العمر عامين، و يدرك الغد فيما بين الثّانية و الثّالثة، و يدرك المس في نهاية الثّالثة إدراكا غامضا عامّا و يمضي به النّموّ قُدُما في مسالك حياته و أطوار نموّه و مستويات نضجه فيدرك شطري النّهار بصباحه و مسائه في سنته الرّابعة، و يعرف الأيّام و علاقتها بالأسبوع في سنته الخامسة، و يدرك فصول السّنة في سنته السّابعة، ثمّ يدرك شهور السّنة حينمــا يبلــغ مــن العمــر ثمانــي سنوات." ( الأسس النّفسيّة للنّمو للدّكتور فؤاد البهى السّيّد ). د) بالنّسبة لبعض مظاهر الأنشطة العقلية الأخرى، استطاع بياجي في الدّراسات التّجريبية الخاصّة بالعمليات العقلية أن يحدّد المستوى العمري الذي تبدأ فيه لدى الطّفل نشاة " مفهوم المحافظة ". معنى هذا أن الكّمّيات الفيزيائيّة ( عدد، طول، وزن، حجم ) إذا مــا خضعــت لتغيّرات فضائيّــة ( نقل، تغيير الشّكل...) لا تحافظ في نظر الطّفل ما قبل السّابعة على قيمتها التّقديرّية. و بالنّسبة لمجال العمل ضمن الفرق ( كطريقة تربويّة ) لا يتهيّأ للطّفل الاستعداد النّفسي للتّعاون مع رفاقه في اللّعب و العمل إلا حوالي العام التّاسع من عمره. و قبل هذا الموعد يكون المرء تحت سلطان الأنية المركزيّة الّتي تعني " نزعة الطّفل في سنوات حياته الأولى إلى اعتبار نفسه مركز للعالم الخارجي إلى الذّات و تفسيره في ضوء مشاعرها الخاصّة، و إدراكه من خلاله." ( موسوعة علم النّفس للدّكتور أسعد مرزوق ). هذه جملة من الحقائق النّفسيّة التي اكتشفها علم النّفس النّشوئي وهو مجال استغلّه ميدانيا كما قلنا أنصار التّربيّة الحديثة منذ مطلع هذا القرن. و الجدير بالإضافة في هذا السّياق أنّ الطّرق التّربوية العصريّة ارتبطت في نشأتها بالحياة الاجتماعيّة حيث آمنت بضرورة اعتبارها تحوّلات مستمرّة. و بهذا يكتمل تصوّرنا لمفهوم التّربية الحديثة: " إنّها حركة مشدودة علميّا و فلسفيّا بطبيعة الطّفل من ناحيّة و مقتضيات حضارة اليوم من ناحيّة اخرى." التّربيّة الحديثة حركة عالميّة كان قد بُعثت للوجود خلال النّصف الثّاني من القرن الماضي و في العديد من البلدان مدارس حديثة جسّمت إرادة التّغيير في قطاع التّربيّة. و حرصا على التّنسيق بين مختلف المبادرات العالميّة بآسيا و أروبا و أمريكا كان قد يكون بجينيف سنة 1899 : " المكتب العالمي للمدارس الحديثة ". و يرجع الفضل في هذا الحدث التّاريخي إلى المربّي السويسري أدولف فريار المنشّط الرّئيسي لهذه الحركة وهو الّذي ضبط سنة 1912 برنامجا مشتركا في 30 نقطة هي بمثابة الشّروط اللازم توفّرها في كلّ مدرسة جديدة تريد أن تنعت نفسها بـ " الحديثة ": 1) المدرسة الحديثة هي مخبر في التّربيّة العلميّة – 2) هي مبيت – 3) تقع في الرّيف – 4) تربيّة في غرف منفصلة تعدّ الواحدة من عشرة إلى خمسة عشر تلميذا – 5) اختلاط بين الذّكور و الإناث – 6) أشغال يدويّة – 7) نجارة و خدمة الأرض و تربيّة حيوانات – 8) أشغال حرّة – 9) تربية بدنيّة – 10) رحلات و مخيّمات – 11) ثقافة و تدرّب على الحكم – 12) تخصّص تلقائي في البداية ثمّ منظّم في اتّجاه مهني – 13) تعليم قائم على النّشاط الذّاتي للطّفل – 14) اعتبار الاهتمامات الذّهنيّة المتغيّرة حسب العمر – 15) علم قائم على البحث الفرديّ – 16) عمل ضمن الفرق – 17) الاقتصار على التّعليم في الصّباح – 18) تحديد موعد الدّراسة كلّ يوم – 19) تحديد مواد الدّراسة في كلّ شهر و في كلّ ثلاثيّة – 20) تربية أخلاقيّة ذاتية من خلال نظام الجمهوريّة المدرسيّة – 21) انتخاب الرّؤساء من طرف التّلاميذ – 22) نظام الأعباء الاجتماعي – 23) مكافآت تهدف إلى تنميّة روح المبادرة – 24) عقوبات لها صلة مباشرة بالخطأ المرتكب – 25) تنافس ذاتي – 26) العمل على ان تكون المدرسة وسط جمال – 27) موسيقى و اناشيد جماعيّة – 28) تربيّة الضّمير الأخلاقيّ بواسطة الحكايات و القراءات – 29) تدريب العقل على الصّواب العملي بواسطة التّفكير الفردي." و من الملاحظات التّاريخيّة لهذه الحركة العالميّة انعقاد أوّل مؤتمر عالمي للتّربية الحديثة و ذلك في 6 أوت 1921 بمدينة " كالي " ( شمال فرنسا ) حيث تأسّست " الرّابطة العالميّة للتّربيّة الحديثة " الّتي تبنّت جملة من المبادئ العامّة لخّصتْها في سبعة بنود نعرضها روحا لا نصّا: 1- الهدف الأساسي لكلّ تربيّة هو تكوين الإرادة و إعلاء شأن الفكر، لذا يكون كلّ مربّ مدعوّا إلى إنماء العقلانيّة لدى الطّالب. 2- اعتبار جانب الفرديّة في كلّ طالب. 3- اعتبار اهتمامات الطّفل الطّبيعيّة التي تترجم عن ذاتها في رحاب مختلف الأنشطة: اليدويّة و الفكريّة و الجماليّة و الاجتماعيّة و غيرها. 4- تبعا لخصوصيّة كلّ طور علمي يجب أن يوكل ضبط النّظام إلى الأطفال أنفسهم بالتّعاون مع معلّميهم. و ينبغي على كلّ نظام أن يفضي إلى تعميق الشّعور بالمسؤوليّة الفرديّة و الجماعيّة. 5- يجب على التّربيّة ان تدرّب الطّفل على أن يجعل ذاته في خدمة المجموعة و ذلك باعتماد أسلوب التّعاون الذي ينبغي أن يعوّض ظاهرة التّنافس الأناني. 6- الدّعوة إلى الاختلاط بين الذّكور و الإناث في التّربيّة و التّعليم لا يعني عدم التّمييز بين الجنسين بل يدعو إلى تعاون و تأثير متبادل بينهما. 7- التّربيّة الحديثة لا تعمل على غرس صفة المواطنة في الشّخص فقط أي بجعله متهيّئا للقيام بواجباته تجاه أقاربه و وطنه و الانسانيّة جمعاء بل تسعى إلى تكوين الكائن البشري الشّاعر بكرامته كإنسان. و المدارس الحديثة كانت في البداية قليلة العدد لكنّها تطوّرت كمّا و كيفا مع توالي عقود هذا القرن. ففي فرنسا مثلا: كان عدد المدارس الحديثة عشرة سنة 1910 و صعد عددها إلى تسعة و ثلاثين قبيل الحرب العالميّة الثّانية، لكنّ اليوم تُعدّ بالمئات، وهي أصناف، منها ما هو متشيّع لنظريات تربوية محدّدة مثل مدارس منتسوري ( نسبة إلى المربّية الإيطاليّة " ماريا مونتسوري " )، و مدارس دكرولي ( نسبة إلى المربّي البلجيكي " أوفيد دكلوري " ) و مدارس فريني ( نسبة إلى المربّي الفرنســي " سلتسان فريني " )، و مدارس شطينر ( نسبة إلى المفكّر الأوربي " رودولف شطينر" )... و منها مدارس غير متشيّعة لنظريّات خاصّة لأنّها فضّلت التّحرّر من كلّ ارتباط ضيّق و اكتفت بالالتزام بالعمل طبقا لمجرى التّربيّة الحديثة الّذي تثريه فروع نظريّة و عمليّة كثيرة و مختلفة. و عن الطّرق التّربويّة نقول: يصعب الحديث في مجال الطّرق التّربويّة التي نشأت و تطوّرت منذ مطلع هذا القرن و ذلك بسبب كثرتها و تشعّبها. لكن جلّ الدّارسين يتّفقون على تصنيف عام قائم على اعتبار مبدأين أساسيين هما: مبدأ فرديّة الطّفل و مبدأ تنشئته الاجتماعيّة. أ) صنف الطّرق القائمة على مبدأ الفرديّة: يتميّز هذا الاتّجاه الحديث في التّربية بـ" الفرديّة " وهي عبارة تعني في جوهرنا مناهضة للمدرسة التّقليدية في عدم اعتبارها لخاصّيات التّلميذ كفرد. من المعلوم أنّ التّربية الكلاسيكيّة آمنت بمبدأ وهمي متمثّل في كون كلّ العقول متشابهة و قادرة على الانتفاع من برنامج ما بنفس الكيفية. لذا كان نظام المدرسة القطيع " حيث يقدم للجميع نفس المحتوى و يسير الكلّ بنفس الطّريقة." و من دعائم هذا التّوجّه الفردي ما توصّل إيه علم النّفس الفارقي من حقائق واضحة أبان الضّرر المنجر عن نظام التّعليم الجمعي الذي لا يراعي الفروق القائمة بيــن الأفراد، وهــي فروق متنوّعــة مأتاهــا العمــر و الوراثة و الجنس و الأسرة و المواهب و القدرات... و من أبرز من ناضل في هذا النّطاق المربّي و السّيكولوجي السويسري كلابراد وهو الذي ابتدع العبارة المعروفة بالمدرسة بالقياس: " نحن لا نعير اهتماما بعقول الأطفال بقدر ما نهتمّ بأرجلهم. تشكّل النّعال حسب قدود الرجل، فمتى ستصبح لدينا مدارس بالقياس؟" ( من محاضرة للشّركة الطّبّية ألقاها بجينيف سنة 1901 حول المدرسة بالقياس ). و من كبار المجدّدين الذين ذهبوا أشواطا بعيدة في توظيف مبدأ الفرديّة هي المربّية هيلين باركهرست التي أقامت عملها كلّيا على التّدريس الفردي حسب طريقة أصبحت تُعرف بمخطّط دالتن. ما هي هذه الطّريقة؟ يقول الأستاذ إسماعيل القباني في مقدّمة الكتاب " التّربية على طريقة دالتن ": أمّا طريقة دالتن فإنّها تجعل للتّلميذ النّصيب الأوفر في تنظيم دراسته، من غير أن يتقدّم بجدول مقرّر للدّراسة. فهي تقضي بأن يقسّم منهج كلّ مادّة إلى أقسام شهريّة تسمّى " تعيينان " و يحدّد التّلميذ تعيين الشّهر في مختلف المواد، مع القدر اللازم من الإرشادات عن كيفية دراسته و المراجع التي يرجع إليها فيه، وهو حرّ بعد ذلك في أن يحصل مجموع التّعيينات كيف يشاء و في أيّ وقت يشاء. و إنّما يطالب بأن يؤدّي في النّهاية اختبارا فيها، و لا ينتقل إلى التّعيين التالي في أيّ مادّة إلا إذا دلّ الاختبار على أنّه أجاد تحصيل التّعيينات السّابقة في جميع المواد. و تستبدل بغرف الدّراسة في المدارس التي تسير على هذه الطّريقة قاعات للمواد، يختلف إليها التّلاميذ طوعا متى شاؤوا، فيجدون في كلّ قاعة منها الكتب و الأدوات و الأجهزة التي تلزم لدراسة مادّتها. ويشرف على القاعة مدرّس المادّة، ولكن موقفه فيها موقف المرشد الذي يمدّ التّلميذ بالمعونة إذا طلبها، لا موقف المسيطر الذي يملي عليه إرادته. و بذلك يقف التّلميذ من دراسته موقفا إيجابيا و يسير فيه بالطّريقة التي تتفق و استعداده الطّبيعي، و يتعوّد مواجهة مشكلاته الخاصّة فتتربّى فيه الثّقة بالنّفس و حبّ العمل. ب) صنف الطّرق القائمة على مبدأ التّنشئة الاجتماعيّة: تتّبع التّربيّة الحديثة في مجال التّنشئة الاجتماعية أساليب عديدة نذكر بعضها: - العمل في نطاق الفرق: وهو أسلوب يقتضي التّعاون بين أفراد المجموعة لانجاز عمل ما. و من أشهر من انكبّ على هيكلة هذه الطّريقة و تعميقها المربّي الفرنسي " كوزيني Cosinet " و المربّي الألماني " بيتارسن Petersen ". - تشريك الطّلاب في سنّ قانون داخلي للمدرسة. - تشريك الطّلاب في انتخاب مجالس و تعيين مسؤولين. - بعث تعاضديات يشرف على تسييرها التلاميذ بالتّعاون مع المربّين. - إلخ... و ما تجدر الإشارة إليه فيما قلناه عن صنفي الطّرق التّربويّة الحديثة أنّ المجدّدين لم يفصلوا في عملهم بين " فرديّة " الطّفل و " مجتمعيّته ". يقول مؤلّفو كتاب " التّطوّر التّربوي في العصر الحديث " ( منشورات دار مكتبة الحياة بيروت ): " و إلى جانب نشاط التّربية بالنّسبة للفرد، يسير الآن تيار تربوي، يهدف إلى جعل المدرسة مسؤولة عن مجتمعيّة الولد، و عن إعداده لحياة اجتماعية أكثر تلاؤما مع أوضاع الحياة الجديدة..." بقي أن نتساءل في النّهاية هل من المستساغ أن يحلّل موضوع كهذا دون تعرّض إلى شيء من تراثنا العربي الإسلامي؟ فهل أنّ التّربية الحديثة غريبة الجنسيذة عنّا؟ في شأن هذه القضيّة أقول باختصار: يحمل الفكر التّربوي العربي الإسلامي في طيّاته أصولا قيّمة نلمس آثارها في القرآن الكريم و السّنّة النّبويّة الشّريفة، و نتبيّن تفاصيلها عند العديد من المفكّرين أمثـال الغزالـي و إخوان الصّفا و الجاحظ و ابن خلدون... لكن واقعنا الرّاهن يحتاج إلى ان نتصدّى للتّجديد بكلّ جُرأة و أن نربط اختياراتنا بماضينا الحيّ و مقتضيات الحياة و العلم من ناحية اخرى. ففي كــلّ المدارس الحديثـة يسود هـذا الميدان: توجيـه الطّلاب لأنفسهـم و اشتراكهم مع بعضهم في ذلك جنبا إلى جنب...فيندمج عمل الفرد بعمل الجماعة كما يجب أن يكون في الحياة فيما بعد." و قبل أن نختم هذا الموضوع لا بدّ من الملاحظة أنّه لا يجوز للذّهن أن ينصرف إلى الاعتقاد في أنّ التّربية الحديثة مقصورة على المجال المدرسي فقط. لأنّ حركات تربوية عديدة ساعدت خارج المدرسة على نشر فلسفة التّربية الحديثة و تجسيم أساليبها، و أهمّ هذه الحركات و أكثرها انتشارا في العالم هي حركة الكشفية: " الحركة الكشفية هي حركة تربوية انطلقت في بداية القرن العشرين من انقلترا، و كانت وليدة اهتمام الرّاي العام الأوروبي بشؤون التّربية إثر اكتشافه في أواخر القرن التّاسع عشر تعثّر الطّرق المدرسيّة التّقليديّة و إيمانه بضرورة تطوير هذه الطّرق و جعلها ملائمة للتّطوّر الحضاري و الفكري... فكان لا بدّ أن تتعدّد النّظريات البيداغوجيّة و تتنوّع على أساس مراعـاة الطّبـاع الخاصـّة لكـلّ طفـل و احترام ميولــه و رغباته و مميّزاته الفرديّة و توفير الجوّ التّربوي المناسب الذي يجعل اللّعب قاعدة للتّعلّم و تكوين المجموعات الصّغيرة التي تتربّى على الاعتماد على النّفس و التّخوشن و تحمّل المسؤولية و استبدال اللهو الرّخيص باللهو المفيد. و قد ظهرت آنذاك مدارس تربوية كثيرة استمدّت فلسفتها من الطّرق اليداغوجيّة الحديثة. غير انّ هذه المدارس لا يكاد يبعث أغلبها حتّى يضمحلّ و يتلاشى و لم يبق منها قائما لحدّ الآن سوى الحركة الكشفيّة التي يرجع الفضل في بقائها لنجاعة طرقها و سلامة أساليبها التي لاقت تجاوبا كبيرا مع ما يرغب فيه الشّباب من نشاط و حركية و طموح." ( كتاب تاريخ الحركة الكشفية بتونس ج1 – إعداد رشيد رحومة )./.

0/Post a Comment/Comments