الشّخصيّة و الطّفولة

الشّخصيّة و الطّفولة

تنحدر كلمة الشّخصيّة ( La Personnalité ) من أصل لاتيني (Personna ) إذ كان يعني القناع الّذي كان يلبسه الممثّل خلال المسرحيّة. و بما أنّ الممثّل كان يستعمل نفس القناع مع كلّ الأدوار فإنّه يمكن اعتبار الشّخصيّة جملة من السّمات الدّائمة و الثّابتة تلازم الشّخص و تترجم عنه أنّى كان. و لا يعني هذا أنّنا توصّلنا إلى تعريف الشّخصيّة. التصقت هذه المفردة في الحقيقة بمعنى معقّد و غامض. ألم يحـص لهـا البورت (Allport ) حوالي خمسين تعريفا في المؤلّفات الأدبيّة؟ و ممّا يفسّر تعدّد الآراء و اختلافها ارتباط الدّارسين بخلفيّات نظريّة معيّنة ( مثلا نظريّة الجشطالت ) أو تغليبهم لجملة من العوامل دون غيرها ( مثل العوامل البيولوجيّة ). لكنّ علم النّفس الحديث يقتنع – رغم كلّ الصّعوبات – بتأليف تعريف مفاده أنّ الشّخصية هي الصّورة المنظّمة المتكاملة لسلوك فرد يعيش في بيئة اجتماعيّة معيّنة من حيث هو شاعر بأنّــه متميـّز عــن غيره. و تشمـل هذه الصّورة جميـع الصّفـات الجسمانيّـة و الوجدانيّة و العقليّة و الخلقية في حالة تكاملها و تفاعلها بعضها مع بعض. و تيسيرا علينا للنّظر بشيء من الوضوح في أمر هذا المجال المعقّد يمكن اعتباره ملتقى تفاعل مجموعتين من العوامل البيولوجيّة و العوامل السّيكولوجيّة. 1- الشّخصية و العوامل البيولوجيّة: أ- دور الجنس: يلعب الجنس دورا هامّا في تشكيل كلّ من الرّجل و المرأة. توجد بينهما و لا شكّ فروق سيكولوجيّة و بيولوجيّة عديدة: الرّجل أقوى عضليا من المرأة، و لعلّ هذا هو ما يفسّر اهتمامه بالأشياء ( في نطاق اللّعب و المهن ). و لعلّ الوظائف الفيزيولوجيّة المختلفة هي التي تفسّر تباين مواقفهما إذ يغلب على الجنس الخشن نزعـة الهيمنـة و العدوان، و تظهـر علـى الجنـس اللّطيـف السّلبيّة و شدّة التّأثّر الوجداني. ب- دور العمر: تتطوّر بنية شخصيّة الفرد تبعا لتطوّر عمره – فاللازمة البيولوجيّة الحاصلة عند البلوغ تؤثّر على كلّ جوانب حياة الفرد من وجدان و أفكار و سلوك إذ باه يتأهّل إلى الصّعود إلى مرتبة الكهل – كما تكون للشّيخ و العجوز شخصيّة مخالفة لكلّ الأنواع السّابقة، و ذلك نتيجة تقلّص آفاق الأمل و انشغاله الكلّي بأنقاض و شعوره بالتّبعيّة للغير. ب- دور الجهاز العصبي و الغدد الصّمّاء: تلعب الغدد الصّمّاء الّتي ينسّق وظائفها الجهاز العصبي المركزي دورا هامّا في سيكولوجيّة المرء – فمن بين وظائف الغدّة الصّنوبريّة مثلا سيطرتها على تعطيل الغدد التّناسليّة حتّى لا تنشط قبل المراهقة – و يؤدّي نقص هرمون التّيركسين الّذي تفرزه الغدّة الدّرقيّة إلى ضعف عقلي و إلى تأخّر المشي و الكلام عند الطّفل، و في حالة الزّيادة الهامّة يصبح للفرد حساسيّة انفعاليّة شديدة فيكون كثير الاستفزاز قليل الحركة، كما يتأثّر كذلك الوجه بمدى نشاط الغدّة الدّرقيّة أي بنسبة التيركسين في الدّم. و من المعلوم أنّ عمليّة الإخصاء ينتج عنها سلوك خاصّ فالدّيك المخصيّ مثلا يفقد نزعته إلى العدوان و الهيمنة. 2- الشّخصية و العوامل الاجتماعيّة: تظهر في شخصيّة كلّ منّا سمات هي آثار ما تركه فينا المحيط بمعناه الواسع. فالأسرة و الحيّ و المدرسة و الثّقافة و نمط الحضارة عناصر تشترك في طبع السّلوك – تؤكّد مدرسة التّحليل النّفسي أنّ الطّفولة مسؤولة عن تشكيل شخصيّة الكهل طبقا لما يعترض سبيل الطّاقة الجنسيّة ( La libido ) من عراقيل قاسية أو مرنة، و تؤكّد نفس هذه المدرسة كذلك أنّ الكثير من الشّخصيات غير السّوية المصابة باضطرابات عاطفيّة و عقليّة عاشت في أوضاع عائليّة ممزّقة حيث تتعطّل ما يُعرف بوظيفة " التّشبّه "، وهي أن يتصرّف شخص " كما يتصرّف شيء آخر يرتبط معه ارتباط عاطفي " – مثال: تشبّه الطّفل بأبيه حوالي السّنّ السّادسة من العمر ". حول تصنيفات الشّخصيّة: لاحظ الدّارسون منذ القديم اختلاف البشر بين بعضهم بعضا في مظاهر السّلــوك و ذهبوا إلى أنّ الاختلاف سببه ما رُكّب في الأفراد من أنواع الأمزجة أو الطّباع ناسبين إلى الأخلاط الأربعة المعهودة ( الدمّ و البلغم و الصّفراء و السّوداء ) مسؤوليّة تشكيل أنماط الشّخصيات – تقول موسوعة علم النّفس في صاحب المزاج الصّفراوي مثلا: " أحد الأمزجة الأربعة حسب التّقسيم القديم أو المذهب الكلاسيكي في أنواع الأمزجة البشريّة – يتميّز هذا المزاج بسرعة الانفعال و حدّة العاطفة في استجابات المرء". ليس بوسعنا أن نتعرّض إلى كلّ التّصانيف التي تغيّرت و تشعّبت على مرّ القرون بل حسبنا ان نشير إلى أبرز ما نراه هامّا في العهد الحديث: 1- يُعتبر تصنيف لوسان ( Le senne ) مرجعا قيّما في هذا المجال حيث يعتبر ثلاثة مبادئ أساسيّة في تشكيل نماذج البشر، وهي الانفعال و النّشاط و الصّــدى، و ما يتفرّع عن هذا الأخير من مفهومي البدائي و الثّانوي – و تبعا لهذا يمكن تركيب ثمانيّة نماذج تختلف باختلاف تركيب العناصر: مثلا " الانفعالي – اللانشيط - الثانوي " يشكّل الصّنف العاطفي الذي يمتاز بكثرة الحساسيّـة و قلّــة النّشـــاط و ارتباطه الكبير بالماضي – و من صفاته أيضا الجدّية و الاستمتاع بتحليل الحياة الدّاخليّة – و يحشر الدّارسون أمثال " روسو " و " مان دي بيران " في هذا الصّنف. 2- و يعتبر الكثير من أهل الذّكر أنّ تصنيف العالم السّويسري كارل يونغ أهمّ تصنيف: يقيّم هذا السّيكولوجي النّماذج البشريّة على مبدإ موقف الأفراد تجاه الدّنيا، وتبعا لهذا فهو يرى صنفين عامّين من النّاس: المنبسط و المنطوي. و يعرف المنبسط بتعلّقه بالعالم الخارجي ( ثروة و شهرة )، و بسعيه إلى الحصول على رضا الجماعة، و إلى نزوعه إلى التّقيّد بأعراف المحيط، و بميله إلى الاجتماع، و بحبّه إلى النّشاط الخارجي و التّغيير و التّنويع. و من مميّزاته كذلك سطحيّة الانفعالات و تحقيق التّوافق عن طريق التّعويض. أمّا السّمات المعاكسة فهي خاصّة بالمنطوي الّذي يتميّز سلوكه مثلا بطغيان شؤون الذّات، و عجزه عن التّكيّف مع البيئة الاجتماعيّة و لجوئه إلى عالم الخيال و الوهم. شخصيّة الطّفل و التّربية: رأينا في بداية هذا الموضوع أنّ الشّخصيّة في معناها العامّ تقتضي من صاحبها الشّعور بذاتيته و وحدته. و الطّفل في مراحل نموّه المتلاحقة تتكوّن " إنّيّته " تدريجيـا آخذة أشكالا مختلفـة و خفيّـة ممّا يوجـب الإشارة إلى بعضها لعلّ المربّين ( أولياء و مدرّسين ) يجدون فيها ما يساعد على تحقيق تكامل الشّخصيّة السّويّة: يبدو الطّفل منذ سنته الأولى قادرا على الشّعور بذاته لكنّ التّمييز بينها و بين الغير من أشخاص و أشياء يكتسيه في الحقيقة كثير من الغموض. أمّا " الآنيّة " الواضحة فهي لا تبدأ في نضجها البطيء إلا ابتداء من الطّفولة الأولى، حيث تظهر على الطّفل خلال السّنة الثّالثة ملامح العصيان و الرّفض تجاه المحيط... و ما يُعرف بـ "أزمات المعارضة " الّتي تشتدّ ابتداء من السّنة الرّابعة أي خلال الطّفولة الثّانية وهي تعدّ مظهرا قويّا من مظاهر نموّ الشّخصيّة. يعتمد الطّفل خلال هذه الفترات مضايقة الأقارب بألوان شتّى من السّلوك : يرفض الأوامر و يخالف الرّغبات و يحرج بالأسئلة و يتفنّن في الكذب و الخداع تقلّب المواقف... كلّ هذه العلامات الّتي يتضايق بها المحيط و يعدّها " تربيّة فاسدة " تعتبــر مظاهــر مشروعــة لسلوك ســويّ تطبّقـه الـذّات الـنّاميّـة لـبناء الشّخصيّـة و تقويتها. و في هذا دعامة أساسيّة تغذّي توق الانسان إلى توكيد الذّات و التّحرّر من التّبعيّة. لا شكّ أنّ الشّخصيّة السّويّة هي التّي يوفّر لها تكامل كلّ مقوّماتها الدّيناميكيّة. و أخطاء التّربيّة في هذا المجال تترك آثارا خطيرة مدى الحياة. أختم هذه الفقرة بما بيّنه الدّكتور يوسف مراد في هذا الباب: " ... فإنّ أهمّ عوامل اختلاف التّكامل ترجع حينئذ إلى سوء رعاية الطّفل من الأوجه الخلقيّة و إلى الأثر السّيّء الّذي يتركه في نفس الطّفل تنازع أفراد الأسرة و عدم الوفاق بين الوالدين، و تكاد تنحصر عوامل نقص التّكامل في أمرين أساسيين، الأوّل فساد التّرقّي الوجداني بالأخصّ نقص للنّضج الانفعالي، و الثّاني سوء تربيّة الإرادة، و بالأخصّ عدم اكتسـاب عادة تنظيــم شؤون الحياة علــى مختلف نوحيهــا مــن مادّية و معنويّــة و اجتماعيّة. امّا أهمّ القدرات التي تساعد على تحقيق التّكامل فهي اثنتان: الأولى القدرة على التّمييز، و الثّانية القدرة على الكفّ الإرادي و ضبط النّفس ".

0/Post a Comment/Comments