الشّكل و تدريس العربيّة

كان الخطّ العربي في القديم خاليا من الحركات و النقاط. لكن العرب كانوا يقرؤونه بسهولة لأنّهم كانوا يعتمدون في ذلك على السّليقة أساسا. و عندما تطوّرت حياة المسلمين و تعقّدت أحوالهـــم و كثــرت مشاغلهــم الدينيــة و الاجتماعية و الفكريّة اقتضت الضّرورة أن تتحسّن الكتابة العربيّة الاسلاميّة الجديدة و ما ينبغي أن تكون عليه أداة الاتّصال و التّدوين من اكتمال. لا شكّ أنّ الكتابة المكتملة التي لا تدخل على قارئها اضطرابا على مستوى التّصويت هي كتابة تعكس نضج قومها و شعورهم الحادّ بأنّ الخطّ الواضح عامل بناء و تطوير. و لنا في الجدليّة القائمة بين الخطّ و مستعمليه عدّة أمثلة يمدّنا باه التّاريخ القديم و الحديث مثال: من المعروف أنّ حياة العرب في الجاهليّة اتّسمت بالكثير من الاستقرار و الرّتابة، و ما نعرفه عنهم من شعر جيّد بلغ حدّ الإبداع أحيانا مردّه أساسا إلى استعمالهم لسلطان اللّسان و الذّاكرة. و لو اهتمّوا بتحسين خطّهم و تفطّنوا إلى دور الكتابة الخطير في تطوير الشّعوب لكانت حضارتهم أرقى ممّا كانوا عليه. و تجدر الإشارة هنا إلى أنّ القرآن الكريم " المعجزة اللّغويّة الفذّة " حوى في مضمون لفظه الدّعوة إلى الكتابة: " إنًّهُ لقُرْآن كريمٌ في كتابٍ مكنونٍ لا يمسّه إلّا المطهّرون ". " و الطّورِ و كتاب مسطور في رِقٍّ منشور ". وهو بأسلوبه و شكله ساعد على توليد النّثر. و النّثر، خلافا للشّعر مجعول أساسا للفهم و إثراء الفكر. بعد هذا نطوي العصور و نقفز إلى عهدنا هذا لنرى ما يخصّنا بيداغوجيا: بحلول عهد النّهضة العربيّة الحديثة دخلـت لغتنــا عصــر الطّباعــة فكثرت الكتــب و الجرائد و المجلات... لكنّ الكتابة التي تجري أمام عيني القارئ هي في أغلب الحالات كتابة عاريّة من الحركات. و انطلاقا ممّا يحسّ به كلّ منّا أثناء قراءته لغير المشكول نؤكّد أنّنا لا نشعر بالاطمئنان النّفسي الكافي و لا نقدر نسبيا على تسخير كلّ طاقتنا الذّهنيّـــة للفهــم و ذلك طبعا نتيجة عجزنا ( مع تفاوت بين الأشخاص ) على القراءة الصّحيحــــة: " ... فإنّه لا خلاف على انّ قراءة الكلام غير المضبوط قراءة صحيحة، أمر يتعذّر على المثقّفين عامّة. بل أنّ المختصّين في اللغة الواقفين حياتهم على دراستها، لا يستطيعون ذلك إلا بإطراد اليقظة و متابعة الملاحظة، و إن أحدا منهم إذا حرص على أن لا يخطئ لا يتسنّى له ذلك إلا بمزيد التّانّي، و إرهاف الذّاكرة، و إجهاد الأعصاب " ( محمود تيمور ). و تبعا لهذا يكون من المنطق أن ننادي بتعميم الضّبط في كلّ الحالات دون أن يوجد فينا هذا شعورا بالنّقص لأنّ العرب منذ عصر الدّولة الأمويّة حرصوا على أن تكون لغتهم مكتملة بالرّغم من شيوع استقامة الألسن و صفاء السّليقة و فصاحة اللّهجات. و ليس لنا في هذا المقام أن نثير ما تطرحه قضايا الشّكل فنّيّا في دنيا الطّباعة لأنّ هذا من خصائص إرادة الحكومات و الشّركات في الوطن العربيّ و حسبنا أن نساهم قدر الإمكان في التّخفيف من خطر مخالطة القارئ العربي اليوم لغير المشكول. تجدر الإشارة بأنّ المطالبة بالحركات على الحروف حقّ مشروع للقارئ لأنّ الكلمة غير المشكولة عبارة عن كلمة تنقصها حروف. يتجلّى هذا بوضوح عند مقارنة لفظين مكتوبين أحدهما بحروف فرنسية ( كُتِبَ – koutiba ) يتبيّن من هذا أنّ الضّوابط هي حروف تعرف اصطلاحا بالحروف المصوّتة، فاللفظ الأوّل الّذي خُطّ بدون حركات يكون مقابله بالفرنسية k.t.b وهكذا تظهر مكانة الضوابط فيما نقرأ. ألا يكون القارئ العربي مظلوما عند مطالبتنا له بقراءة أسطر غير مشكولة؟ إنّه مظلوم فعلا و نلاحظ في سلوكه التّردّد و الاضطراب لأنّه مضطرّ أحيانا إلى أن يفهم أوّلا لكي يستطيع أن يقرأ بشكل صحيح: أثناء القراءة الجهريّة كثيرا ما نعود إلى الوراء لتصويت كلمة بكيفيّة صائبة كان اللّسان قد زلّ في شأنها و ذلك عند التّفطّن إلى عدم استقامة المعنى طبقا لكيفيّة النّطق الحاصل. تصّور أنّك أمام نصّ خال من الضّوابط يحمل هذا العنوان " كلب نبيه ". إنّك تعجز في أوّل الأمر عن قراءة صحيحة لأنّ الصّورة تقبل كيفيّتين مختلفتين ( نعت و منعوت أو مضاف و مضاف إليه ). و حتّى إن اكتشف القارئ أنّ كاتب النّص يتحدّث عن شخص اسمه نبيه و كلب له نبيه لا مناص من محاولة تعميق الفهم لمعرفة ما إذا كان الكاتب يقصد نسبة الكلب إلى شخص نبيه فتقرأ " كَلْبُ نَبِيهٍ ". و هكذا تكون في اتّجاه معاكس للمقصود بالكتابة حيث تقرأ أوّلا لتفهم ثانيا. و يُضاف إلى صعوبة الموقف ما يمكن أن يتشعّب في الفهم من جرّاء تعقّد الأسلوب و عويص المعاني و خفي الأفكار. عندها يكون المشكل مركّبا فيزداد الطّين بلّة ممّا يؤدّي بالقارئ إلى السّلبيّة الذّهنيّة أو النّفور من القراءة أحيانا. بعد هذا التّوضيح يكون من الواجب أن ندعو كلّ المدرّسين على اختلاف أنواعهم ( ابتدائي، ثانوي، عال ) أن يلتزموا بضبط كّل ما يضعونه من جمل و نصوص أمام تلاميذهم سواء كان مكتوبا على السّبّورة أو مطبوعا على ورق لأنّ هذا كما بيّنّا حقّ من حقوق المتعلّمين مهما كانت درجة مستواهم. و لا يصحّ في هذا النّطاق ما يعتقده البعض من أنّ تدريب المتعلّمين على قراءة غير المشكول منذ الابتدائي يساعدهم على مجابهة الواقع المتمثّل في خلوّ كتابة جلّ المجلّات و الجرائد و الكتب من الحركات. الموقف السّليم هنا هو أن نعتبر أطوار الدّراسة هي أساسا حلقات تكوينية لا اختباريّة. لو تمثّل لنا أنّ تلميذا ينشأ منذ البداية على ان تلتقط أذناه دائما أصواتا عربيّة صحيحة و على أن تقع عيناه دائما على الكتابة المشكولة انتظرنا أن تصل به الحال في النّهاية إلى أن يكون في المشافهة و القراءة أقدر من مثقّفي اليوم لأنّ النّطق الصّحيح يصبح شبه سليقة و مرانة.

2/Post a Comment/Comments

  1. محمد الدبوسي3 نوفمبر 2010 في 4:27 م

    فعلا يظلم القارئ عندما يطلب منه قراءة أسطر غير مشكولة.. الشكل ضروري في أحيان كثيرة ليستقيم المعنى ويتبين المراد

    ردحذف
  2. مشكور اخي الكريم على المقالة الثرية و الهامة فانت وضعت اصبعك على نقطة هامة و هامة جدا .
    فعلى المربي ان يعود نفسه و تلامذته على النطق السليم والكتابة السليمة و الشكل السليم.

    ردحذف

إرسال تعليق