علم النّفس الفيزيولوجي

علم النّفس الفيزيولوجي مادّة تبرز التّأثير المتبادل بين سيكولوجيّة الانسان و معطياته الفيزيولوجيّة. و الافتراض الفلسفي القائل بثنائيّة الكائن البشري ( الفصل بين الرّوح و الجسد ) لم يعد اليوم معتبرا بعد أن أثبت العلم الحديث بطلانه، ممّا حدا بالدّارسين خلال القرن العشرين خاصّة إلى اعتبار الانسان وحدة مترابطة الأجزاء و موطنا تلتقي فيه تأثيرات مختلفة و متداخلة. معنى هذا أنّ الظّاهرة الحياتية الواحدة ينبغي أن تفهم على ضوء إطار كلّي أي أن تعمد الفصل بين مكوّناتها يقعد بالدّارس عند حدّ السّطحيّة و الغموض. على سبيل المثال نذكر اللّعب، هذا النّشاط الأساسي الّي يعتبره البعض غاية الطّفولة ( لم تصلح الطّفولة؟ تصلح الطّفولة للّعب و التّقليد. كلابريد Claparède. اللّعب نشاط ممتع بما يوفّر للطّفل من لذّة حسّيّة و عضويّة يصرف فيها ما تكدّس عنده من طاقة، وهو كذلك ظاهرة حياتيّة فيها أبعاد عقليّة و اجتماعيّة لأنّ الطّفل يحصل أثناءها على تمرين الذّاكرة و الخيال و على قبول القوانين و الاندماج في المجموعة. كلّ هذه الوظائف تلتقي متلاحمة في الذّات باعتبارها تركيبا فيزيولوجيّا و مقرّ أفكار. هذا المثال يقيم الدّليل على صحّة الاتّجاه الشّمولي في معالجة الانسان أي أنّ الّذي يروم فهم شخص و حلّ مشاكله ينبغي عليه أن يعتبره كلّا حيّا مجسّدا. بعد هذه المقدّمة يتيسّر لنا فهم سرّ الالتقاء الطّبيعي الّذي تمّ حول الانسان بين مختلف طوائف العلماء كالسّيكولوجيين و الأطبّاء و الفيزيولوجيين الّذين كثيرا ما انشغلوا بنفس المواضيع و طبّقوا نفس الطّرق: رأوا أنّ الكثيرين من مرضى العقول لا توجد بهم إصابات عضويّة و انّ الكثيرين من المنحرفين جنسيّا لا يبرئهم العلاج القائم على مفعول الهرمونات. حلّ هذه الأمراض و غيرها تتّصل أسبابها بالحياة النّفسيّة للشّخص كأحداث مؤثّرة أو صراع مع المحيط... و ما انبعاث ما يُعرف بالطّبّ النّفسي – الجسدي إلّا تجسيم لهذا المنحى الّذي لا يفصل بين البنية و الحياة النّفسيّة. من ميادين علم النّفس الفيزيولوجي أ‌- الجهاز العصبي: منذ أوائل القرن التّاسع عشر تأكّد من خلال الدّراسات التّشريحيّة و الفيزيولوجيّة انّ الدّماغ – كعضو – يلعب دورا أساسيّا بالنّسبة للفكر. معنى هذا أنّ الفكر لم يعد ميدانا خاصّا بالبحث الميتافيزيقي بل بإمكانه أن يصبح مركز اهتمام العلماء الموضوعيين لأنّ له أساسا مادّيا. و من أهمّ الأحداث التّاريخيّة الّتي قفزت بعلم النّفس الفيزيولوجي اكتشاف مركز الكلام المنطوق من طرف العالم الفرنسي بول بروكا Paul Broca. كان قد قدّم هذا الأخير في أفريل 1861 إلى إحدى الشّركات المهتمّة بدراسة الانسان دماغ رجل بلغ من العمر خمسين سنة. كان الرّجل قد توفّي في المستشفى الّذي كان يعمل فيه بروكا Broca و كان معروفا بعجزه عن استعمال الكلام منذ سنتين ممّا جعل النّاس يلقّبونه بالأب " طان " . أدّى تمحيص دماغ هذا العيي إلى تحديد مواطن إصابة في الفصّ الجبهي من الجانب الأيسر حيث عيّن بروكا Broca مركز الكلام المنطوق. بعد هذا توالت الدّراسات نشيطة و حدّد باحثون آخرون مراكز حركيّة و حسّيّة خلال السّنوات التي تلت 1870. ليس بوسعنا هنا أن نذكّر بتطوّر فيزيولوجيّة الجهاز العصبي و مكتسباته و حسبنا أن نشير إلى بعض الحقائق الأوّليّة: أ- يتحكّم الجانب الأيمن من المخّ في الجانب الأيسر من الجسم. و الجانب الأيسر من المخّ يتحكّم في الجانب الأيمن من المخّ. معنى هذا، أنّ اليد اليمنى الكاتبة مثلا يتحكّم فيها مركز حركي كائن في الجانب الأيسر من هذا الجهاز. - المخّ مسؤول عن الحركات الإراديّة و تنقل إليه التّأثيرات البصريّة و السّمعيّة و الذّوقيّة و الشّمّيّة. - النّخاع الشّوكي متّصل بالأفعال المنعكسة. - الجهاز السمبتاوي Système sympathique يشرف على الوظائف الآليّة الدّخليّة للجسم كضربات القلب و حركات الرّئة و عمليات التّغذية و الإخراج... فهو لذلك يدلّ على امتلاء المعدة و الأمعاء و المثانة و فراغها و من مظاهره الجوع و العطش. ب- الإحساس و الإدراك الحاسي:
من النّتائج المباشرة الّتي تولّدت عن دراسات مراكز الدّماغ كان التّمييز الواضح بين مفهومي الإحساس و الإدراك الحاسي: " فانطباع صور المرئيات على شبكيّة العين إحساس، و اتّصال مؤثّرات هذه المرئيات بالجهاز العصبي المركزي، و تفسيره لها من ناحية الشّكل و اللون و الحجم و تقديره لمعناها إدراك بصري." ( الدكتور فؤاد البهي السيّد )، نستنتج من هذا أنّ الإدراك الحاسّي مرتبط بعدّة أجهزة عضويّة: الحواس و الأعصاب و الجهاز المركزي العصبي. فإدراكي لحرارة الماء مثلا نتيجة عمليات معقّدة اشتركت فيها عدّة أطراف. تسجّل حاسّة الجلد التّأثير ثمّ تنتقل الصّورة الحاسّية عبر الأعصاب الحسية إلى الجهاز العصبي المركزي الذي يضفي عليها معانيها. و من الدّراسات الطّريفة التي جمعت بين طرفي الفيزيولوجيا و علم النّفس ما تعلّق بمعرفة حركات العين القارئة: تتحرّك العين قافزة. يقسم السطر المقروء آليا إلى مقاطع بصرية، العين لا ترى الحروف و لا الكلمات و إنّما ترى المقطع كلّه مرّة واحدة... و لا يخفى مدى تأثير مثل هذه الحقائق على طرق التّعليم. و من الجدير بالذّكر في هذا المجال أنّ صعود علم النّفس إلى مرتبة العلوم الموضوعية حصل أساسا انطلاقا من ميدان الاحساس لاتّصاله الطّبيعي بمشمولات علماء المادّة من فيزيائيين و فيزيولوجيين: يتّصل الاحساس بمثيرات ( فيزياء ) و بعمل أعضاء ( فيزيولوجيا ). معنى هذا أنّه تمّ إخضاع الظّواهر النّفسيّة إلى التّجريب و القيس داخل المخابر. ج- الغدد الصّمّاء: الغدد الصّمّاء نوع من الغدد وظيفتها تكوين مركّبات كيمياويّة معقّدة تسمّى هرمونات. تصبّ الهرمونات مباشرة في الدّمّ و تلعب دورا هامّا في حياة الانسان و نموّه منذ الطّفولة. نذكر بعض هذه الغدد: 1- الغدّة الصّنوبريّة: تقع في أعلى المخّ و تعمل الهرمونات الّتي تفرزها على اتّزان حياة الفرد و تنسيق النّموّ خلال مرحلة الطّفولة. و من وظائفها الأساسيّة سيطرتها على تعطيل الغدد التّناسليّة التي لا تنشط قبل المراهقة و لهذا فهي تظهر عند البلوغ أي عند انتهاء مهمّتها الحيوية. 2- الغدد الدّرقيّة: توجد بأسفل الرّقبة أمام القصبة الهوائيّة. تُعرف هذه الغدّة بصنعها لهرمون التيروكسين الذي يؤثّر في النّموّ تأثيرا بالغا: إنّ النّقص في نسبة التيروكسين بالدّمّ يؤدّي إلى ضعف عقلي و إلى تأخّر المشي و الكلام عند الطّفل بنسبة تجعل الشّخص ذا حساسيّة انفعاليّة شديدة أي أنّه يكون كثير الاستفزاز و قليل الاستقرار. و من مميّزات الغدّة الدّرقيّة تأثّر ملامح الوجه بمدى نشاطها و خمولها. 3- الغدّة التّيموسيّة: توجد في الجزء العلوي من التّجويف الصّدري. من خصائصها أنّها تزدهر خلال المراحل الأولى من حياة الانسان: عند الميلاد يكون وزنها 10 غ ثمّ تنمو لتبلغ منتهى ازدهارها خلال الطّفولة الثّالثة حيث تزن 30 غ، ثمّ يتناقص حجمها بعد ذلك إلى أن ترجع إلى حالتها الأولى عند الشّيخوخة. 4- علم النّفس الفيزيولوجي و الانفعالات: تحدث الانفعالات تغيّرات فيزيولوجيّة عديدة، فهي تِؤثّر في الضّغط الدّموي و في نبضات القلب و في الإفرازات و في عمليّة التّنفّس... كما تؤثّر كذلك في النّشاط العقلي. و لقد أمكن للدّارسين أن يقسّموا بدقّة مقدار هذه التّأثيرات المختلفة.

0/Post a Comment/Comments