وظائف اللّعب


وظائف اللّعب
بالنّسبة للكهل يمكن اعتبار اللعب نشاطا مجانيا يقصد لذاته بغية الاستمتاع باللّذّة التي يوفّرها وهو يختلف عن العمل الذي يتّصف بالمردود العملي.
هل ينطبق هذا التّفسير على اللّعب الطّفلي؟ طبعا لا، لألعاب الطّفل معـــان كثيـرة و عميقة سأحاول توضيحها من خلال بعض أقوال أهل الذّكر:
أ – " ( الأطفال ) نحبّ اللّعب الذي من أجله عوقبنا من طرف الذين يتصرّفون طبيعيا مثلنا، إنّ ألعاب الكهول تسمّى الشؤون، و بالرّغم من انّ شؤون الأطفال هي من نفس النّوع نرى الآباء يعاقبون أبناءهم من اجلها دون أن يشفق عليهم أحد ". ( اعترافات القديس أوغسطين Confession St Augustin )
ب – " الكهل يعلم أنّ اللعب مجاني، الطّفل يلعب بدون علم تقريبا أي بدون قصد جلي " ( ج – ريمود J.Rimaud ).
ج – " سأذهب للّعب " يقول هذا بلهجة المنفعل المهموم مثلنا، نقول نحن: " سأذهب للعمل ". له الحقّ في هذا: اللعب هو شغله الأساسي و واجبه.... " ( ج – دوهامال G.Duhamel ).
نستنتج من هذه الأقوال أن اللعب طبيعي يقيم عليه الطّفل حياته و شأنه معه شأن الكهل مع العمل.
لكن ما هو السّرّ في التحام الطّفل باللعب ؟
نستخلص الإجابة عن هذا السّؤال الأساسي من خلال عرضنا لبعض الأقوال و تحليلنا لها:
1- يرى سبنسر Spenser أنّ اللعب " نشاط مخصّص لاستعمال باق من الطّاقة المصروفة في إنجاز عمل ". يبرز هذا التّفسير العلاقة الكائنة بين اللعب و البدن في حاجته إلى الحركة. كلّ يعلم أنّ أنشطة الانسان تبعثها و تسيّرها دوافع مختلفة أي أنّ كلّ ميل إلى شيء ما معناه إرضاء هذا الشّيء لرغبة من رغبات الذّات، و ما دامت الحاجة إلى الحركة حاجة ماسّة في الكائن البشري يكون من الطّبيعي أن يحصل السّعي إلى إرضائها بشتّى الطّرق و في كلّ الظّروف. و اللّعب هو اهمّ مجال يجد فيه الطّفل ما يشبع رغبته هذه. و الألعاب مهما اختلفت أشكالها و تطوّرت مقاصدها نراها تحافظ عى سمة أساسيّة ألا وهي الحركة، و كأنّ الطّبيعة قصدت صوغ هذا النّشاط بكيفيّة تضمن استمرار اللحمة الملحوظة بينه و بين الطّفل.
2- يرى " كلايريك" ( Claparède ) أنّ الطّفولة تصلح للعب و التّقليد. " ليس الطّفل طفلا بسبب انعدام الخبرة و إنّما هو كذا لأنّ به حاجة طبيعيّة لاكتساب هذه الخبرة " معنى هذا انّ التّقليد ظاهرة أساسيّة في حياة الطّفل يقوم عليها جانب هامّ من نموّه و تكوين شخصيّته. و لمعرفة قيمة التّقليد في حياة الانسان عموما حسبنا أن نذكر مجال تعلّم اللّغة و ما يلعب فيه التّقليد من دور خطير و أساسي. سرّ نجاح الانسان في هذا الميدان نتيجة ميل طبيعي إلى التّقليد، هذا الميل الّذي تحاول الذّات إشباعه بكلّ الوسائل.
و اللّعب نشاط يساعد الطّفل على إرضاء هذا الميلـ يسمح له مثلا بتقمّص شخصيّة كهل توقا إلى إدراك مستوى قدراته.
3- اللّعب و الميولات الغيريّة: من الحقائق البديهيّة انّ الإنسان ميّال بطبعه إلى العيش مع الغير و يبدو هذا الدّافع جليّا في سلوكه منذ طفولته، تراه يتعاطف مع أفراد أسرته و يقدّم لهم مساعدته... و تظهر هذه الغريزة ( الغريزة القطيعيّة ) جليّة واضحة في مسرح اللعب خاصّة خلال مرحلة الطّفولة الثّالثة.
نسوق فقرة لأحد علماء نفس الطّفل " أ. جيزال " ( A.Gesell ) يصف فيها الظّاهرة الجماعيّة في النّشاط اللعبي حسب عامل الجنس: " في السّنة الرّابعة من عمره يوجد ميل إلى انفصال جماعات اللعب حسب الجنس. و في السّنة السّابعة يمكن للولد و البنت أن يكونا أثناء اللعب صديقين طيلة أسابيع و أشهر، و كذلك الشّأن بالنّسبة للجماعات الكبرى التي لا تعرف عادة التّقسيم حسب الجنس،. و ابتداء من السّنة المواليّة يبدأ انفصال الإناث عن الذّكور في لعبهم، و ابتداء من التّاسعة إلى فترة المراهقة يكون الفصل التّامّ بين التّجمّعات ". بالإضافة إلى إبراز عامل الجنس في تجمّعات اللّعب تؤكّد هذا الفقرة ميل الطّفل إلى الاجتماع بالغير مهما كان جنسه. و ما نراه في نزوع الطّفل أو المراهق إلى مصادقة الأقران و معاشرة العصابات و مخالطة المنظّمات دلي على سلطان هذا الدّافع البشري الأصيل الذي يساهم اللعب في إرضائه.
4- " اللامبالاة البادية في حاجة الطّفل إلى اللّعب أمر ظاهري لا حقيقة له، لأنّ اللعب يشكّل بالنّسبة إليه اختبارا يُقدم عليه و يؤكّد به ذاته " ( ر. هوبارت R.Hubert-) الرّغبة في توكيد الذّات حاجة ماسّة بالإنسان، و لعلّها حاجة مركزيّة تتولّد عنها كلّ الاهتمامات و تتّصل باه كلّ المقاصد. لذلك نرى كلّ شخص يسعى إلى فرض مكانته الاجتماعيّة و لفت انتباه الغير إليه. الطّفل لا يشدّ عن هذه القاعدة بل تعنيه كبشر و تعنيه ككائن ناشئ ( متمركز حول ذاته ) يضع نفسه في الاعتبار الأوّل. لذا ما نراه في فترات اللعب من مظاهر العناد و العدوان و الزّعامة إلخ...دلالة على محاولة إرضاء الرّغبة في توكيد الذّات. و قد تمارس هذه الحاجة ضغوطا كبيرة على الطّفل فتحمله على إشباعها بواسطة العاب قاسيّة و خطيرة حتّى أنّك تراه يتسلّق الوعر و يحمل الثّقيل و يقفز من شاهق و يقاوم الجوع و العطش و الآلام إلخ... وراء كلّ هذا طبعا ذات بشرية تفرض وجودها بممارسة المغامرة و التّدرّب على الصّبر و بناء الإرادة، و أصاب من عرّف الطّفولة بأنّها ط فترة الاستعداد للحياة عن طريق اللعب".
5- يقوم اللعب بدور العلاج للنّفس المهمومة. كثيرا ما يشعر الطّفل بضيق مصدره مقتضيات النّسيج الاجتماعي الذي يحتّم المر و النّهي و العقاب إلخ... لذلك نرى الذّات الغضّة تتخفّف من انفعالاتها المؤلمة بواسطة " التّحويل "، يظهر هذا مثلا في حال بنيّة توبّخ دميتها و تضربها بعد ان ارتكبت عملا ذميما، كما يظهر في تسليتها لعروستها عندما تتعرّض إلى عقاب والديها، و نفس المظهر التّنفيسي يتجلّى في لعب ولد ينسب إلى كائن خيالي مسؤوليّة أخطائه.
هكذا نرى في الميل إلى اللعب منحى طبيعي تصطنعه الذّات المريضة لتفرّ من الواقع الأليم و تعيش لحظة سعيدة في عالم خيالي.
و جملة القول في علاقة الطّفل باللّعب أنّ شدّة اللحمة بينهما تُفسّر – حسب رأيي – على ضوء حقيقتين متكاملتين : علميّة و فلسفيّة
الحقيقة العلميّة: ثبت علميّا لدى علماء النّفس أنّ كلّ نشاط يقدم عليه الانسان أو الحيوان و يعود إليه بلا كلل، مشدود إلى عامليْن معيّنين هما الحاجة المولّدة للسّلوك من ناحيّة و النّتيجة الإيجابيّة الّتي تجلب الرّضا من ناحيّة ثانيّة، ( أو بتعبير آخر عامل الدّافع و عامل التّعزيز )، و لا يخفى على أحد أنّ هذه الحقيقة تنطبق تماما على الطّفل تجاه نشاط اللعب.
الحقيقة الفلسفيّة: يبدو اللّعب في نظر النّاس السّطحيين بلا جدوى لأنّ ليس له مردود علمي. هذه النّظرة المبتذلة تقف بأصحابها عند حدّ النّفع المباشر و الحيني و لا قيمة لما وراء هذا – لا شكّ انّ هذا المنطق مقبول مادّيّا و عقلانيّا – لكنّ مظاهر حياتيّة عديدة نراها تفعل في الوجود بتنسيق مدهش دون ان ندرك كنهها. خذ لك مثلا الطّائر " أبو زريق " الّذي اعتاد أن يطمر البلّوط في الأرض حتّى توجد في مستقبل بعيد غابات شاسعة، فما سرّ هذا الفعل الغريب، و أيّ قصديّة خفيّة تحرّكه؟ تقضي الحكمة الفلسفيّة أن نرى في اللعب الطّفلي سرّا حياتيا تشرف عليه الطّبيعة و تنظّمه طبقا لمقتضيات وظيفة الحياة الكلّية التي تغيب عن أنظارنا.
بعد هذا التّحليل الّذي بيّنّا فيه ماهية اللعب و دوره الخطير في حياة الطّفل خاصّة يكون لزاما علينا أن نبارك اتّجاه التّربيّة الحديثة في احتضانها مبدأه – و ما طبقته – " ماريا منسوري " – عندما بثّت في تعليمها كهرباء اللّعب يعتبر أنبل عطف ترحم به النفوس البريئة.
و لسائل أن يسأل: لماذا تنكّرت التّربية التّقليديّة لهذا المبدإ؟ أرى لهذا التّنكّر سببين اثنين:
1- سوء ظنّ بالطّبيعة البشرية الباحثة عن اللّذّة لأنّ اللّذّة مقترنة بالنّجاسة – لذا وجب تخليص الذّات من هذا السّلطان و الصّعود باه إلى عالم الحرمان و الصّفاء – و من الأمثلة الدّالّة على هذا التّصوّر التّربية الهنديّة المتأثرة بتعاليم " بوذا ".
2- تعلّق أعمى بالمردود الجدّي لكلّ نشاط و إيمان بما يعدّ مباشرة للحياة دون سواه لذا يكون اللعب حتما خارج دائرة الاعتبار.
و ختاما على ممثّلي التّربيّة التّقليديّة من آباء و مدرّسين أن يدركوا أنّ التّجربة أثبتت أنّ من ساروا في اتّجاه معاكس للطّبيعة سقطوا فريسة للطّبيعة إذ سيطر على حياتهم شبح الفراغ و سلطان الوحشة و بهذا يكون التّلاشي و الضّياع.

0/Post a Comment/Comments