علم النفس التّجريبي

علم النّفس التّجريبي

علم النّفس التّجريبي هو محتوى سيكولوجي تكوّن بفضل تطبيق المنهج التّجريبي. ما هو المنهج التّجريبي ؟ هو باختصار منهج بحث خاص بالعلوم الطّبيعيّة وهــو كمـــا ضبطـــه كلود برنـــار ( CL.Bernard ) ملاحظة ظواهر، فصوغ افتراض ثمّ تحقيق الافتراض بواسطة التجريب. نسوق مثالا للتّوضيح: 1- لاحظ بستور " Pasteur " في الحليب الرايب كائنات حيّة. 2- افترض وجود علاقة بين هذه الظّاهرة و الهواء. 3- الطور التجريبي: أُجريت عمليات داخل أنابيب تمّ أثناءها خلط سوائل مطهّرة بهواء مطهّر فلوحظ عدم فساد هذه السّوائل. ثمّ مُزِجت نفس هذه السّوائل بهواء عادي غير مطهّر ففسدت. عندئذ أمكن لباستور " Pasteur " أن يتأكّد من صحّة افتراضه. ملاحظة: يقتضي الحذر العلمي قبل إقرار الحقيقة العلميّة ( وهي في هذه الحالة " يحمل الهواء جراثيم " ) أن تُعاد التّجربة مرّات و في ظروف مختلفة. سؤال: هل أنّ علم النّفس هو علم تجريب بالمعنى التّام ؟ بالمقارنة إلى بعض العلوم الخرى ( كالفيزياء مثلا )، يسهل على كلّ ناقد معتدل أن يرى في المنهج التّجريبي أداة بحث محدودة بالنّسبة للسّيكولوجيا: في نطاق الأمراض العقليّة مثلا يتعذّر على الباحث المجرّب أن يلحق ضررا بإنسان إذا كان الضّرر يتوقّع حصوله من جرّاء عمل تجريبي يحدث للتّاكّد من وجود علاقة بين ظاهرة مرضيّة و سبب ما لأنّ الضّرر هنا تأباه الأخلاق و تمنعه القوانين. لكن مهما كانت العراقيل التي تواجه السيكولوجي في هذا المجال لا نشكّ في كون علم النّفس كبقيّة العلوم لم يعد يقنع بالملاحظة وحدها لذا فهو ينتفع بميدان التّجريب و يسعى في توسيع نطاقه تدريجيّا ممّا ينحت له مكانة ضمن العلوم الموضوعيّة و أرجو أن يتمّ توضيح هذا الرّأي و تأكيده في الفقرات المواليّة. متى و كبف بدأ علم النّفس التّجريبي ؟ نشأ هذا العلم بألمانيا بين أحضـــــان علمـــــاء الطّبيعــــة مــــن فيزيائييــــن و فيزيولوجيين. كان الفيزيائي فشنار " Fechner « " هو أوّل من ألّف كتابا في السيكولوجيا التّجريبيّة و كان لمؤلّفه هذا عظيم الأثر لأنّه طرح قضيّة سيكولوجيّة صرفة ( كثافة الإحساس ) و عرض طُرُقا تسمح بقيسها و قدّم لأوّل مرّة قانونا سيكولوجيّا يضبط ازدياد كثافة الحسّ تبعا لازدياد كثافة الإشارة الفيزيائيّة ) ( Loi de Fechner و لكن أوّل من حقّق دفعا عمليا حاسما في هذا الميدان هو الفيزيولوجي واندت " Wundt " و ذلك بتأسيسه أوّل مخبر سنة 1879 بلبزيق " leibzig "، كانت أشغلا هذا المخبر تُخَصّص لدراسة عدّة عمليات منها ( السماع و الذّوق و الانتباه ... ). تمثّل فضل واندت " Wundt " – زيادة على الوصول إلى عدّة حقائق طريفة – في جعل التّجريب السيكولوجي أمرا واقعا ملموسا. كان هذا الاتّجاه في البحث السيكولوجي معزّزا في الواقع حتّى خارج ألمانيا: الفريد بيني " A.Binet " من فرنسا،و قلطون " Gagton " من انقلتـــرا و طورنديك " من الولايات المتّحدة، كلّ هؤلاء وغيرهم نشطوا فـي التّجريـــب و ساهموا في تركيز أسس هذا العلم الحديث. و من الجدير بالذّكر أنّ ما حصل في بداية هذا القرن من اكتشاف بافلوف " Pavlov " للاستجابات الشّرطيّـــة و نجاح طريقة طورنديك " Thorndike " في دراسة الحيوانفتح امام المناهضين لطريقة الاستنباط باب الملاحظــــــة الموضوعيّــة و التّجريب العلمي على مصراعيه. منذ 1907 مان هنري بيارون H.Piéronيشرح أنّ الأبحاث السيكولوجية لا يمكن لها أن تقوم على العقل الواعي، بل على نشاط الأجهزة العضويّة. و في 19018 قال بيني Binet : " إنّ علـم النّفس أصبح علم الفعل " . أمّا أوجّ هذه الثورة فقد حصل مع الأمريكي وطسون watson دارس الحيوان، فهو الّذي كشف النّقاب على الوجه الجديد للدّراسات السيكولوجيّــــة و أطلق عليه اسم علم النّفس السلوكي أو السّلوكيّة Béhaviorisme . نتج عن هذا الموقف الجديد إيجاد أرضيّة خصبة لتطبيق المنهج التّجريبي الذي تمّ بفضله اكتساب حجم ضخم من النّتائج. حسبنا في هذا المقام الضيّق أن نورد بعضها: 1- في دراسة قام باه بيرونPiéron حول اتّجاهات النّمل و اتّباعها مسالك مستقيمة افترض أنّها تهتدي في طريق عودتها برائحة آثارها و جعل يجرّب بوضع لوحة خشب قطع باه مسيرة الحشرة فلاحظ أنّ اتّجاهها لم يتغيّر ممّا يثبت عدم صحّة الافتراض أي أنّ النّمل لا تهتدي برائحة آثارها. تواصل التّجريب بأن حبست الحشرة في صندوق لعدّة ساعات و عندما أطلق سراحها لوحظ أنّها لم تهتد إلى طريق عودتها، عندها تمّ تفسير ظاهرة الاهتداء بكونها مرتبطة بموقع الشّمس. 2- أجرى طورنديك Thorndike تجارب في موضوع السّلوك عند الحيوانات ابتغاء تقدير مقدرتها الغريزيّة على التّعلّم. درس الدّجاج و القطط و القــــــردة و انتهى إلى أنّ الحيوانات تتعلّم بطريقة التّجربة و الخطأ Essais et erreurs أي أنّها تقوم بعدّة محاولات لحلّ المشكلة التي تعترضها مستبعدة كلّ حركة مخفقة و مقوّية سائر الحركات النّاجحة، حينئذ عمليّة التّعلّم عند الحيوان مبنيّة على قانونين: أ- قانون التّدريب ب- قانون النّتيجة: فكلّما تعلّم الكائن أكثر ازداد نجاحه و كلّما ازداد النّجاح كان الارتياح أبلغ و أعظم و العكس بالعكس. و اصطنع طورنديك Thorndike الطّريقة نفسها في دراسته التّربويّة، فراقب سلوك الأطفال كما راقب من قبل سلوك الحيوانات. 3) و في نطاق البحث عن أنجع سبيل يتمّ بها التّعلّم أفضت تجارب بعض الأخصّائيين إلى ضبط قانون يعرف بقانون جوست Loi de Jost و مفاده: عندما يترك بين تمرين و تمرين فاصل زمني معيّن يمكن اختصار عدد التمارين اللازمة لاكتساب عادة أي عندما يستلزم حفظ قائمة من المقاطع ستين غعادة في ظرف ساعة مثلا لا يحتاج في ظرف ثمانية و أربعين ساعة إلى أكثر من ثلاثين إعادة. 4) و كان حظ علم النّفس الاجتماعي من الدّراسات التّجريبية هامّا. كذلك أجرى العالم النفساني ليفين K.Lewin ( وهو من السّلوكيين ) في نطاق حركية المجموعات تجارب أدّت إلى ضبط حقائق هامّة: قسّم أطفال مصيف إلى فـــرق و كلفوا بأعمال تحت إشراف رؤساء راشدين طلب من كلّ منهم أن يسير الأنشطة بكيفيات مختلفة ( حرّة و استبداديّة و ديمقراطيّة ). بيّنت النّتائج أنّ الرّئيس الدّيمقراطي يوفّر أكثر من غيره التّعاون و الانسجام بين افراد المجموعة التي تكون أكثر نجاحا، أمّا الرّئيس المستبدّ فهو يولّد الكراهيّـــــــــة و تتكوّن في جوّه كتل معارضة، و تبعا لهذا يقلّ التّعاون و يضعف الانتاج.

0/Post a Comment/Comments