أيّها المتّهِم اتهم نفسك أولا

جلست يوما كعادتي لأكتب...فأعددت أوراقي، و طلبت نظّارتي فلم أجدها، فطلبت حافظتها فإذا هي خالية منها...فناديت: نظّارتي...أين نظّارتي؟ فهبّ من في البيت يبحث عنها عبثا، فثبت في ذهني أنّ ابنتي الصّغيرة، وهي الجريئة عليها وحدها قد أخرجتها من حافظتها و كسّرتها، و ها هي الآن تفرّ إلى زاوية من زوايا البيت تقبع فيها خائفة وجلة.. و لكنّي أريد نظّارتي سليمة أو محطّمة. لم يعد أحد من الصّغار يجرؤ أن يدخل على هذا الأب الّذي يُرغي و يزبد و يكشّر...وهم يعلمون أنّ ثمن نظّارة جديدة سيترك كسرا في ميزانيتي لا يمكن جبره بسهولة. و أخيرا دخلت زوجتي عليّ مستفسرة... قالت لي: " أيّة نظّارة تريد؟ السوداء أو البيضاء؟ قلت: وهل هذا موضع السّوداء الآن؟ بماذا يقرأ النّاس؟ قالت ضاحكة: مدّ يدك إلى عينيك! مددت يدي، فإذا النّظّارة التي أريد على عينيَّ، فهدأ غضبي و ساد جوّ الغرفة سكون لا يشقّه إلا ضحك من في البيت و سخريتهم منّي و نقدهم اللاذع لي. جلست أفكّر في نفسي كيف غلب هذا الخطأ عليّ، و هل بالإمكان أن تكون النّظّارة على عينيّ، و أنا أبحث في كلّ مكان؟ و لكنّ...أتريد أن تسمع منّي الآن أيّة عبرة تركت في نفسي هذه الحادثة البسيطة؟ أليس خطبي أنّي رحت أبحث عن شيء ظننته ضائعا وهو معي؟ ما أكثر هؤلاء النّاس الذين هم مثلي، يفتّشون عن أسباب و أشياء خارج نفوسهم، وهي مستكنّة في أعماق نفوسهم، بحيث لو خفضوا أنظارهم إليها لرأوها، و لو مدّوا أيديهم إلى جوانح نفوسهم لوقعوا عليها! و لكن ما أسهل أن تمدّ بصرك إلى ما حولك أو تبسط يدك على ما حولك..أمّا أن تلمس يدك ما تخفي من علّتك الشّخصيّة فهذا هو الّذي لا تفكّر فيه أبدا. و لذلك كلّما أضعت شيئا رحت تبحث عنه في كلّ مكان إلا نفسك، و إذا أصابك شيء أو خيبة أو ضرر علّلته بكلّ حادث خارجي إلا بعلّة صادرة عن نفسك! سَلْ هذا التّاجر أو العمل: ما هي أسباب خيبته في هذا العمل؟ يجيبك: " إنّه الحظّ! " و سَلْ هذا الطّالب الّذي جنى السّقوط بدلا من النّجاح: ما هي أسباب سقوطه؟ يجيبك: " إنّه الحظّ! ". و سَلْ هذا الصّديق الذي انفصل عن صديق عزيز له: ما هي أسباب القطيعة بينه و بين صديقه؟ يجيبك أنّ صديقه خان الأمانة و غدر بالصّداقة.. و سل هؤلاء و غير هؤلاء ممّن يشكون، يجيبونك بما تفهم منهم أنّ العلّة دائما لا تأتي إلا من الخارج! أنا لا أنكر أنّ العلّة قد تأتي من الخارج أحيانا، و لكن أجد كذلك أنّ معظم العلل قد تأتي من داخل أنفسنا و أخطائنا التي لا نراها، لأنّنا نتوهّم أنّها أخطاء غيرنا. فهل فتّش هذا العمل عن أسباب فشله في عمله نفسه؟ و هل ردّ هذا الطّالب أسباب خيبته غالبا إلى إهمال و تقصير في إحدى النّواحي قبل أن يردّها إلى عوامل الحظّ الّذي يساعد غالبا من يساعد نفسه و يهمل من أهملها؟ و هل بحث هذا الصّديق النّاقم على صديقه عن أسباب هذه الخصومة في عيوب نفسه قبل أن يبحث عنها في عيوب صديقه؟ و هل جرّب هذا التّعيس القلق أن يفتّش عن أسباب قلقه في نفسه، لأنّ أسباب القلق قد تكون كامنة في شخصيته و حياته، قبل أن يفتّش عنها في العالم الّذي يحيا فيه؟ لذلك عاهدت نفسي دائما أن أفتّش عن نظّارتي إذا فقدتها في عينيّ...قبل أن أفتش عنها في أي مكان آخر، و أن أجلو الغبار عنها قبل أن أعتقد بأن الجوّ مملوء بالغبار... و أن أزيل الخشبة عن عيني قبل أن أزعم أنّ في عيني رفيقي شوكة. لنهذّب أنفسنا قبل أن نطلب تهذيب نفوس النّاس !

0/Post a Comment/Comments