الجدّية في اللّعب


إنّ جديّة الطّفل تتجلّى عندما يكون بالنسبة إلينـا منهمكـــــا كليــا في اللعــب، و اللعب عند الطّفل يحتلّ حيزا زمنيا كبيرا مقارنة ببقيّة الأفعال الغريزّية كالنوم أو البكاء المعبّر عن بعض الاحتياجات مثل الأكل أو النّظافة أو بعض الأحاسيس مثل الخوف أو عدم الأمان لحظة غياب الأم.
الطّفل يلعب عند الأكل و أثناء الاستحمام و أمام المنزل، و يلعب في الشّارع بل و حتّى في المدرسة التي هي في حدّ ذاتها ليست سوى فضاء شاسع للعب.
إنّ الفصل بين الجدّ و اللّعب عند الطّفل أمر مستعص، لذلك نرى في كثير من الأحيان أنّ اللعبة تنهي بين الأطفال بشجار عنيف تؤدي إلى تورّط الآباء أحيانا في معارك و خصومات لا يحمد عقباها، و قد تنتهي إلى دوائر القضاء.
إنّ اللعبة التي يمارسها الطّفل مع أقرانه ليست بالنسبة إليه وسيلة تسلية، بل هي أداة لتحقيق رغبة التّفوق أو الانتصار للحصول على المتعة النفسية.
يعتبر اللعب العنصر الأساسي المساعد للطّفل على إدراك محيطه الخارجي، فكثيرا ما نرى الطّفل يلجأ إلى الرّمزيّة ليسقط وضعيات مستقبليّة في شكل مواقف تبدو هزلية بالنسبة إلينا.
فالطّفل يمتطي العصا على أنّها حصان، و يمسك بين يديه مسطرة على أنّها مقود دراجة ناريّة، و يجرّ صندوقا على انّه شاحنة... إلخ، فمن خلال هذا التّرميز المتعدّد الأشكال يتكيّف الطفل مع محيطه و يستعدّ للحياة المستقبليّــــة و ما ينتظره من أعمال عندما يصبح كبيرا.
عكس ما يتوهّم البعض، فاللعب ليس خاصّيّة طفولية بحتة، إذ أنّنا نرى الكبار أيضا يلعبون بنفس الحماس الذي يبديه الأطفال، بل قد تفوق متعة اللعب عندهم تلك التي يستشعرها الأطفال.
يلعب الكبار الورق و الداما و الكلمات المتقاطعة، و يلعبون بهواتفهم المحمولة و بألعاب الحاسوب، و يلاعبون كلابهم و قططهم، و يشاركون الطّفل في اللعب بلعبته التي اختاروها بأنفسهم تلبية لرغبتهم فيها.
قد يبدو اللعب سلوكا غريزيا حسب ما توحي به المظاهر الخارجيّة، لكنّه في الواقع هو شكل ثقافي كما أنّه وسيلة تحرّر من ضغوطات نفسيّة و تصريف لطاقات جسمية كبتتها النواميس الاجتماعيـة، و الضوابط الأخلاقية و الدينية التي تطارد الطّفل داخل الرّاشد، و تشدّد عليه الرّقابة، لذلك يطلـق علـى اللعـب عادة " ترويح عن النفس " .
الحدود الفاصلة بين عالم اللعب و عالم الجدّ تتوارى تدريجيا كلّما اتّسعت دائرة اللعب و تنوّعت أشكاله، إلى أن يصبح التّمييز بينهما متعذّرا نتيجة تداخلهما.
فالزّواج أو الختان مثلا هما من الطّقوس المقدّسة، غير أنهما في حالات مثيرة لا يتحقّقان بمعزل عن اللعب و اللهو أثناء الاحتفالات الصّاخبة بهما، و قد تبيح هذه الاحتفالات أن يخرج الكهل عن هيبته و وقاره، و يتجاوز جسد المرأة الحياء و الخجل للتعبير عن انفعالات ما كان ليعبّر عنها خلال الممارسات اليومية الجادّة.
نرى أن الإنسان يلجأ إلى سنّ ضوابط و قوانين لكلّ نوع من أنواع الألعاب التي يمارسها، و يحدّد شكلها و أسلوب أدائها مراعيا في ذلك زمن اللعب و ميدان ممارسته، و ذلك لإضفائها مسحة من الجديّة و جعلها تختلف عن اللعب العشوائي الذي يمارسه الأطفال خلال لهوهم و مرحهم، و بالتّالي تكون اللعبة جدّية و مقننة لا تخرج عن ميثاقها الذي يحتكم إليه عند التباري و في حالات التّشنّج و الغشّ و المخالفات.
إنّ عقلنة اللعبة و إضفائها طابع الجدية يخلّصها من الطّابع الطّفولي، و حالة العقلنة هذه هي التي تمثّلها مجموعة كبيرة من الرّياضات الجماعية، و منها بالخصوص لعبة كرة القدم أو كرة اليد أو كرة السلّة.
إنّ المساس بجوهر لعبة كرة القدم مثلا و تجريدها من الطّابع الجدّي يفقدها مصداقيتها، وهو ما يؤدّي إلــى عزوف الجمهـــور عــن متابعة المقابلات و ما يترتّب عن ذلك من آثار اقتصاديّة سلبية بسسب تراجع المداخيل المتأتّية من دخول الملاعب و تقلّص الحملات الإشهارية.
على الرّغم من أنّ ميثاق التّباري في هذه الرّياضات صريح و بيّن، فإنّ التّعاطي الفعلي مع المباريات مختلف تماما. و كثيرا ما نرى ما بعض المباريات تؤدي إلى حالات الوفاة أو الهستيريا أو الاكتئاب النّفسي و البكاء.
لاعبو كرة القدم يلعبون ، ويعرف المتفرجون أن الأمر يتعلق بلعبة لا أقل ولا أكثر، ومع ذلك كثيرا ما تنتهي المباريات بمعارك تمتد إلى شوارع المدينة وأحيائها الشعبية منها والراقية، و تفسير ذلك أنّ لعبة كرة القدم في حدّ ذاتها ليست سوى وسيلة عصريّة لتصريف مجموعــــــة مـــن الانفعالات المتنوّعـــة و المكبوتة في اللاوعي يعجز السلوك البشري أن يعبّر عنها من خلال تجلياته العاديّة.
توصف كرة القدم بمعبودة الجماهير، وهو وصف مريب، فحالة التّأنيث في عبارة " معبودة " توحي إلى الأنثى المثيرة جنسيا إلى جانب الهوى الجارف الذي يحيل عليه فعل العبادة ثانيا.
إذا ما قارنا لعبة كرة القدم بألعاب جماعية أخرى نراها أكثر تشويق و إثارة، فهي تتميّز بقدرتها على إثارة طاقة انفعالية تشل المتفرج، وتلقي به في حالة جذب رهيبة لا يخرج منها إلا مع انتهاء المقابلة. ف " الصعود" و" الهبوط" و" الصرخــة المدويــة" و" الصمــت الرهيب" ثم " الوقــوف" و"الجلوس" و"التلويح باليد"، وما يعقب ذلك من شتائم تنهــال على اللاعبين و المــدرب، أو على الحكم وحده.
مباراة كرة القدم تعدّ من اللحظات المميزة التي تبيح للفرد التعبير عن مواقفه الحقيقية تجاه مجموعة من القضايا كالحرب أو السلم أو الضّعف أو القوّة أو المرأة ، بل قد يصل الأمر إلى الكشف عن بعض الأحاسيس العدوانية المتأصّلة فينا و التي لم يفلح التهذيب الحضاري المتواصل في محوها والتخلص منها نهائيا.
يمكن للمتفرّج المحايد أن يكتشف العنصر المشترك بين مباراة في كرة القدم وبين معركة حربية يقودها جنرالات لا يتورعون عن استعمال أبشع الوسائل من أجل دحر العدو.
فمباراة في كرة القدم لا تختلف في شيء عن معركة قتالية تجمع بين جيشين على أبّهة الاستعداد لخوض معركة حاسمة أو مصيريّة تهيّأ لها كلّ أسباب النّصر من استعداد نفسي واختيار الميدان و ضبط التوقيت، يضاف إلى ذلك وجود الخطّط الحربيّة المتّبعة و التي تمّ التّدرّب عليها في شكل مناورات يدير أطوارها قائد محنّك بمعيّة مساعدين و مرافقين. كما يلاحظ أيضا أثناء المباراة وجود من يتكفّل بإسعاف الجرحى و المعطوبين، و طاقم مهمّته الدّعاية و التّشويش على العدو للنّيل من نفسيته و الحدّ من روحه القتاليّة، و هناك البيارق و الرايات التي تحدّد ألوانها و أشكالها أنصار كلّ فريق.، و كما يحدث في الحروب هناك جواسيس و سماسرة و مرتزقة. و خونة و أثرياء حرب و منكوبون حسب ما ستؤول إليه الغلبة في هذا الصّراع الطّاحن.
ممرّن كلّ فريق الذي يلعب دور القائد العسكري هو من يحدّد تنظيم اللاعبين الذين يلعبون دور الجنود وفقا لمؤهلاتهم و قدراتهم فوق ساحة الميدان، فهناك ميمنة تصارع العدو من اليمين و ميسرة تكرّ عليه من اليسار و رأس حربة أو قلب الهجوم المكلّف بإلحاق أكبر الخسائر في صفوف العدو، و كتيبة أخرى مخصّصة لحماية الوسط والتصدي للغارات المباغتة، وخامسة تحمي الظهر وتمنع العدو من التسرب إلى العمق الاستراتيجي.
وهناك ما هو أهم من الخطط المقنة، فنجاح المعركة يعتمد أيضا على المبادرات الفردية وشجاعة المحاربين وقوتهم واستبسالهم في المعركة. فالاستراتيجية التي لا تتوفر على جنود شجعان وأذكياء لتطبيقها، ولا تتوفر على بدائل جاهزة للقتال في حالات وقوع جرحى أو مفقودين لا يمكن أن تحقّق النّصر .
على أن هذه الحرب لا تستبعد أيضا عوامل أخرى غير متوقعة في الاستراتيجية الأصلية، فحالات الخيانة فـــي صفوف هـــذا الفريــق أو ذاك واردة ( التاريخ زاخر بالشواهد الدالة على ذلك )، كما أن حالات " اللاغالب واللامغلوب" ( التعادل ) واردة أيضا، يشهد على ذلك " الحروب الحدودية"
ومع كلّ ذلك هناك ما يميز الحرب الفعلية عن اللعب، وهو تمييز بالغ الدقة والحساسية، فالمعركتان تختلفان من حيث الميثاق والفضاء وأدوات الفعل والغايات النهائية، رغم استعمال نفس التّعابير المستمدّة من المعجـــم الحربـــي و التي تجري على لسان المعلّق أو الصحفي الرّياضي.
وبعبارة أخرى، يتعلق الأمر بمحاولة نقل " عدوان حقيقي" يسكن الوجدان واللاوعي من حالته " الحقيقية " إلى ما يشبه " البروفة" لضمان نوع من التوازن النفسي دون أن يؤدي ذلك إلى قتل حقيقي. فالهستيريا الجماعية والصراخ الذي لا ينقطع وتموجات الأجساد البشرية في حركة متناغمة ليست سوى محاولة للوصول إلى " حالة سكينة" تطمئن لها الذات المنهكة، وهي حالة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال استنفار كلي للطاقة الجسدية.
إذا اعتبرنا أنّ الرّياضة لها فوائد صحّية جمّة على ممارسها الفعلي حيث تمكّنه من صرف طاقاته الجسدية المشحونة و شعوره بالانتشاء أمام المتفرّجين المعجبين بمهارته، فإنّ المشاهد شبيه بالمتلصّص الذي يشبع رغباته من خلال التلذذ المرضي بمشاهدة الآخرين ينزعون ثيابهم شيئا فشيئا استعدادا لممارسة جنس.
تهتز الجماهير طربا وهي تعاين لاعبا يقوم، بمهارة فائقة، بتسريب الكرة بين رجلي خصمه، وهو ما يسمى في المعجم الكروي " القنطرة الصغيرة"، وللفعل الموصوف كل الإيحاءات الجنسية الممكنة، ومنها ما يدل على الإخصاء.
تسجيل هدف بالشّباك يثير المتفرّج، كما أن عمليّة الإيلاج تحقّق ذروة الإشباع الجنسي، الاستعداد لضربة جزاء تنحبس له الأنفاس و تمتد له الأعناق لتسقط بعد ذلك أجسام المتفرّجين على المقاعد بكلّ برود إذا مـــا أصابت الكرة المرمى دون اختراق الشّباك فكأنّها فعل جنسي منقوص.
وهذا يفسر الطابع الذكوري للعبة. فاللعــب " رجــولي " وتدخلات اللاعبـــن " رجولية"، والواقف أما المرمى " أسد "، ويتكون الجمهور في أغلبيته الساحقة من الرجال، و الكرة وحدها " مؤنثة"، لذلك يداعبها الرجال، ويجرون وراءها، ويتسابقون لوضعها على صدورهم أو بين أرجلهم. وعندما يتهاون اللاعبون في اللعب ويهزمون ينعتون ب " الفتيات" ، أي بالضعف والوهن والرقة والأنوثة وقلة الفحولة.

0/Post a Comment/Comments