الحنفيّة العجيبة

أحسست يوما بضيق شديد يقطع الأنفاس من شدّة الملل و الضّجر إثر عودتي مرهقا من العمل الروتيني الإداري، فعزمت الخروج للتّنزّه بشوارع مدينة المهديّة لأروّح عن نفسي، فأطلقت العنان لقدميّ لتقودني حيث شاءت لأنّي لم أعيّن وجهة محدّدة، فقد سئمت الجلوس بالمقاهي المتناثرة هنا و هناك كالفقاقيع و التي تعجّ بها المدينة. و بينما أنا هائم على وجهي إذ استوقفتني واجهة محلّ صغير لبيع التّحف و الهدايا، فشدّت انتباهي تحفة معروضة تتمثّل في حنفية غير موصولة بأنبوب يسيل منها الماء رقراقا لينسكب في وعاء تحتها باستمرار و دون أن يمتلأ الوعاء. ما إن وقعت عيناي على هذه التّحفة الظّريفة حتّى أطلقت قهقهة مدويّة من الأعماق دون وعي منّي أحسست إثرها بالخجل و الارتباك لمّا تفطّنت إلى علامات الاستغراب البادية في وجوه أحد المّارة حينذاك. هذه الحنفيّة التّحفة أعدت ذاكرتي فجأة إلى الأيّام الخوالي، أيّام الصّبا في بداية السّبعينات، لمّا كنت طفلا يافعا متّقدا حيويّة و نشاطا، سعيدا بطفولتي الحالمة رغم أنّي من عائلة فقيرة مكافحة تكابد من أجل توفبر لقمة العيش الكريم كأغلب سكّان المدينة في تلك الفترة. مرّت بذاكري صورا و مشاهد متلاحقة غير منتظمة أو خاضعة لترتيب زماني أو مكاني، بل كانت تلك الصّور و المشاهد تتراقص في مخيّلتي كالأحلام اللّذيذة. من جملة الذّكريات الجميلة التي أوحتها لي هذه الحنفيّة عروض بابا دورتيس السّاحر العجيب الذّي كان يبهرنا بعروضه الفرجويّة و ألعابه السّحريّة التي تشدّ ألبابنا و تستهوي عقولنا الصّغيرة النّظرة. بابا دورتيس كان يقدّم عروضه السّحريّة و ألعابه البهلوانيّة للكبار و الصّغار داخل خيمة كبيرة تشبه مغارة علي بابا.أعود إلى خيمة بابا دورتيس التي انتصبت بجانب مدخل الميناء، فقبل الولوج إلى عالمها السّحري، يشدّك أمامها عمّي دربال، وهو رجل قزم جاحظ العينين، أفطس الأنف، كثيف الحاجبين، يعتلي منصّة عاليّة حذو باب الخيمة، و قد كان يساير بحركاته الجسمانية و رقصاته الارتجاليّة المضحكة صوت معلّمه دورتيس المنبعث من مضخّم الصّوت المثبت بعمود كهربائي، و كان بابا دورتيس يعيد على مسامعنا نفس الرسالة الصوتية الإشهاريّة بين عرض و آخر دون كلل أو ملل إلى أن حفظناها عن ظهر قلب حتّى أنّنا كنّا نردّدها معه بحناجرنا الصّغيرة دون فتور على النّحو التّالي: " موعدكم مع السّحر، موعدكم مع التّنويم، موعدكم مع العجائب و الغرائب مع بابا دورتيس. دورتيس الذي أدهش الملايين و الملايين من الجماهير. إخواني أخواتي، أوّل ما يفتح السّتار تشاهدون منظرا عجيبا غريبا. تشاهدون رأس سيشمة، رأس سبّالة معلّقة في الهواء شيء ما يشّدها لا خيوط و لا جعب اللميّة هابطة منها أربعة و عشرين ساعة على أربعة و عشرين ساعة، الرأس ما يفرغ، و الشّقالة ما تتعبّا، و اللي ما يصدقش يتفضّل يشوف بعينيه، و المشاهدة أقوى دليل، و ما عليه كان يقص تسكرة بمائة مليم و يشاهد العجب قدام عينيه. دربل يا دربال عندك و ما عند حد. " لقد حفظت هذه الرّسالة الصّوتية اللإشهاريّة من كثرة تردّدي اليومي للوقوف أمام الخيمة في انتظار أن يمنّ عليّ الله بثمنها، و لم أستمتع بمشاهدة الحنفيّة السّحريّة العجيبة إلا لمّا استكملت جمع المائة مليم، بعد طول عناء و مشقّة من جرّاء جلب الماء للجيران من الحنفيّة العموميّة التي كانت قبالة مخبزة متزارا اليوم، والتي كانت أكثر صدقا و أمانة من حنفيّة بابا دورتيس، التي سلبت منّي ما جادت به عليّ حنفية الحيّ.

0/Post a Comment/Comments