دفتر إعداد الدّروس







دخلت المنزل فاستقبلتني زوجتي بوجه متجهّم على غير عادتها، وكان الإرهاق واضحا في ملاحمها.
بداية تردّدت في السّؤال عمّا ألمّ بها، فلعلّ ذلك راجع إلى فرط الإجهاد في الشّؤون المنزليّة اليومية، غير أنّي لاحظت أنّ البيت مازال يحتاج إلى بعض التّنظيم إلى حدّ ساعة متأخّرة من الصّباح، فسألتها: ماذا بك ؟ هل أزعجك الأولاد ؟
ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة ساخرة معبّرة عن حالة ضيق بداخلها، مشيرة إلى دفتر موضوع على الطّاولة و حوله أوراق مبعثرة من كلّ جانب، ثمّ طلبت منّي إحضار الخبز في الحين ريثما تتمّ هي إعداد الغذاء قبل ذهابها إلى العمل بالمدرسة.


اختفت زوجتي داخل المطبخ، فوجت نفسي أمسك بدفتر إعداد الدّروس و أنظر إليه شزرا لأنه السبب المباشر في تعكيــر مزاج زوجتـــي و تجهّمــها رغم أنّها جبلت على البشاشـة و الانشراح.
أسندت الدّفتر ببضع كرّاسات و كتب كانت تجاوره ليصبح أمامي وجها لوجه في محاكاة غريبة و قلت له حانقا:
- سأمزّقك إربا إربا، ثمّ أضرم فيك النّار. سأحوّلك إلى رماد متناثر في الهواء.
ذعر الدفتر و قال لي:
- أي جرم ارتكبته في حقّك حتّى تكنّ لي هذا البغض الدفين في صدرك؟
- أنسيت ما فعلته بي قبل سنوات لمّا كنت أباشر التّدريس قبل تكليفــي بعمــــل إداري، و الآن تواصل تحاملك على زوجتي، مسبّبا لها المعاناة و الشّقاء بأكثر قــســوة و فضاضة.
- إنّك تظلمني، فأنا لست سوى دفتر يحمل بعض وريقات يكتب فيها ما يراد كسائر الدّفاتر الأخرى.
- و لكنّها تحمل همّك باستمـرار، إنّك تشغــــل بالهــا ليلا نهارا، و تلازمها في حلّــها و ترحالها، و لا يستقرّ لها قرار إلا إذا صرفت كلّ طاقاتها في الاعتناء بك و تدليلك الدلال المفرط الذي لا حدّ له، على حساب راحتها و راحة أفراد عائلتها، فأنت تصرّ على الحصول على كلّ شيء، بل لا يرضيك أي شيء.
- أنا لم أطلب منها كلّ هذا الاهتمام و الرّعاية، بل هي التي تبالغ في تزييني بالرسومات و الألوان و الأشكال حتّى أكون أكثر تأنّقا.
- إذن أنت تحاول تبرئة ذاتك لتوهمني انّك لست مذنبا في شيء ؟
- لا .. بل هناك من يستحقّ الإدانة أكثر منّي.
- من يا ترى سواك ؟
- أولئك الذين بيدهـم الحـــلّ و العقــد... السّاهرون علــى وضــع البرامج التعليميــة، و المشرفون على تخطيط المناهج البيداغوجية التي تتغيّر باستمرار كتغيّر واجهات المحلات التّجارية حسب انتماءاتهم السّياسية و توجّهاتهم الفكريّة، فهم المسؤولون على اثقال كاهل المعلّم و المتعلّم بمطالب ما أنزل الله بها من سلطان.
- و ما الجدوى من ذلك ؟
- إنّهم يرمون حسب زعمهم إلى تجديد الأساليب البيداغوجية و تطويرها قصد الرّفع من المستوى التعليمي و مواكبة عصر العولمة.
- ألا ترى أنّهم يستنزفون الطاقات و يهدرون الجهود بلا طائل ؟ ... ألم يكن مستوى التّلميذ و الطّالب في العقود المنصرمة أرفع بكثير من المستوى التعليمي لهذا الجيل، إذ أصبحنا نرى خريج أرقى الجامعات عاجز على تحرير تقرير في مجال تخصّصه رغم حصوله على أعلى الشّهادات العلمية ؟
- أرجوك سيّدي لا تدخلني في مهاترات عقيمة الجدوى، و لا تقحمني في متاهات لا منفذ لها، فأنا لست إلا دفترا تمسكه معلّمة و تخطّ عليه ما يستوجبه عملها التربوي. أما زلت تضمر لي الشّرّ بعد كلّ هذا ؟
- لي رغبة جامحة في التّنكيل بك لكن لا أقدر على ذلك لأنّك في موقف قوّة.
- و كيف ذلك ؟
- إنّي لو انقضضت عليك سأكون قد أهدرت جهد صاحبتك التي سهرت من أجلك طوال الليالي، و تهرع إليك بهلع كلّما تذكّرتك كما تهرع للطّفل المتمخّض من رحمها.
- أنا لست مذنبا، ابلغ زوجتك أني لا أطلب منهــا أن تولينــي كـــلّ هــــذا الاهتمــام و الرّعايـة، و لـن أتضرّر لو ضّمنتنـي بعض الأسطـر للتّذكيـر فحسـب، و من الأجدر أن تكرّس وقتها في مزيد الرّعاية بالمتعلّم داخل الفصل، و سأكون في غاية السّعادة لو تحوّلت إلى دفتر يسعد المعلّمة و لا يشقيها، و آمل أن يتفهّم المشرفون التربويون ذلك.



عندما هممت بالخروج متوجّها إلى المخبزة حانت منّي التفاتة إلى أنامل يدي فإذا بها مشوبة بالحبر، و لم أجد تفسيرا لذلك، فلعلّها دموع ذلك الدّفتر انسكبت على أناملي من فرط الظّلم الذي أحسّه كالذي أحسّته صاحبته المعلّمة.

1/Post a Comment/Comments

  1. waw que c bien dit il est vrai que les programmes changent tjr avec mes 29ans de services je n'ai +envie d'apprendre rien de nouveau si avec les vieilles méthodes je retrouve mes élèves des docteurs des ingénieurs.................je ne crois pas que les changements des méthodes vont faire des nullards que ns avons en classes des génies. 

    ردحذف

إرسال تعليق