الفرديّة و المجتمعيّة في التّربيّة الحديثة

الفرديّة و المجتمعيّة في التّربيّة الحديثة تتميّز التّربية الحديثة بالاتّجاه الفردي وهو ما نقصده بكلمة " الفرديّة " التي تعني في جوهرها مناهضة للمدرسة التّقليديّة في عدم اعتبارها لخاصّيات التّلميذ كفرد، من المعلوم أنّ التّربية الكلاسيكيّة آمنت بمبدإ وهمي متمثّل في كون كلّ العقول متشابهة و قادرة على الانتفاع من برنامج ما بنفس الكيفيّة. لذا كان نظام المدرسة القطيع حيث يُقدّم للجميع نفس المحتوى و يسير الكلّ بنفس الطّريقة. ثار روّاد التّربية الحديثة ضدّ هذا الموقف المضرّ بالفرد و المنافي لطبيعة الأشياء. و ما يُعرف في الحديث عن روسو بالثّورة الكوبارنيكيّة إنّما هو تعبير واضح عن مخور هذه القضيّة: أشار هذا المربّي الفذ إلى بطلان ما كان يُتصوّر صوابا وهو ضرورة الانطلاق من مشاغل الكهل و منطقه و حمل الطّفل على هضم ما يُقدّ إليه، و نادى بلزوم قلب المحور أي جعل كلّ شيء ( طرق – برامج ) يتحدّد انطلاقا من خاصّيات المربّي. من دعائم الاتّجاه الفردي أنّ الثّقافة الحقّ لا تتمّ إلا بمشاركة واعية من طرف الفرد، و الإعداد الصّحيح لا يكون بدون توفّر الرّغبة التي تضمن تسخير كلّ الطّاقات في بذل الجهد. يضاف إلى هذا الحقائق الواضحة التي انتهى إليه علم النّفس الفارقي: إنّه بين الضّرر المنجرّ عن نظام التّعليم الجمعي حيق لا تراعى الفروق القائمة بين الأفراد وهي فروق متنو"عة مأتاها العمر و الوراثة و الجنس و الأسرة و المواهب و القدرات... كلّ هذا العوامل تصنع مزيجا من المركّبات تكون به الذات متميّزة غيرها جسميا و ذهنيا و عاطفيا و اجتماعيا. هذا المشغل الذي آمنت به التّربية الحديثة نلمس آثاره في كلّ مجالاتها النّظرية و العمليّة. 1. الفرديّة لا تخصّ مواد التّدريس فقط بل تتجاوزها إلى نطاق أعمّ فتشمل كلّ الوضعيات التّربويّة، ففي مجال الحياة الاجتماعيّة و ما تقتضيه من عقاب و جزاء يقول أ.كرني: " ينبغي على المربّي الجدير بهذا الاسم ألا يهمل الصّبغة العلاجيّة التي يجب أن يتّسم بها تدخّله إزاء الطّفل غير المطيع. هنا كلّ عمل تربوي هو إفرادي". 2. العبارة المعروفة " المدرسة بالقياس " التي اشتهر بها عالم النّفس السّويسري الكبير " ادوارد كلابراك " تعني ضرورة ملاءمة العمل المدرسي لكلّ تلميذ على حدة: " نحن لا نعير اهتماما بعقول الأطفال بقدر ما نهتمّ بأرجلهم، تشكّل النعال حسب قدود الأرجل، فمتى ستصبح لدينا مدارس بالقياس؟ " ( من محاضرة حول المدرسة بالقياس ). 3. إذا اعتبرنا المبادئ التي أقرّتها الرّابطة العالمية للتّربية الحديثة سنة 1921 دستورا يكون منطلقا لأعمالنا وجد المربّي المعاصر نفسه ملزما باعتبار الاتّجاه الفردي في التّربية تطبيقا للمبدأ الثّاني من هذا الدّستور: " ينبغي على التّربية أن تحترم فردية الطّفل. هذه الفردية لا يمكن لها أن تتطوّر إلا بواسطة نظام يحرّر الطّاقات العقلية الكامنة فيه ". 4. و من الأدلّة المثبتة لكون " الفرديّة " محور التّربية الحديثة ما يشهد به أحد المربين المعاصرين: " إنّ المجهود المبذول في سبيل أفراد التّعليم لهو أبرز ظاهرة و أهمّها في تطوّر الفكر المعاصر، وهو الذي أوجد أعمق التّجديدات ". 5. إذا وافقنا بياجي في تصنيف الطّرق البيداغوجيّة - رغم تشعّبها – إلى نوعين أساسيين وجدنا أحدهما ينطلق من مبدإ التّلاؤم مع الطّفل، و من أمثلة هذا الصّنف طريقة منتسوري و طريقة دكرولي و مخطّط دلتون و غيرها – و يدخل في هذا المضمار طريقة التّعليم المبرمج الذي يقوم أساسا على مميّزات كلّ تلميذ المتعلّقة بالمكتسبات السّابقة و القدرة على الاستيعاب و السّرعة الخاصّة بالتّعلّم. فقد يتوهّم البعض أنّ هذا الانشغال الشّامل و العميق بفرديّة الطّفل معناه إهمال لمجتمعيته. لكن الواقع الملموس يبيّن انّ حرص التّربية الحديثة على التّكوين الاجتماعي ثابت لا شكّ فيه، شأنها في ذلك شأن دور المدرسة منذ أقدم العصور، وهو بالإضافة إلى هذا الحرص يتّسم – خلافا للمعتاد – بالوعي و باستعمال سبل عمل سليمة جدّا. مبعث هذا الوعي هو الحقائق الصّارخة التي انتهت إليها الدّراسات و التّجارب: اعتاد الإنسان أن يفتخر بأفكاره و عقله الواعي و ان يتيه في فرديته ناسيا تماما أنّه في هذا مدين كلّيا إلى المجتمع. و ليس من الصّعب تصوّر حالة كائن بشري يعيش في البداية منعزلا عن المجتمع، فتجربة " الأطفال الذّئاب " بيّنت أهمّية الإطار البشري بالنّسبة للفرد. من يُحرم من الاتّصال البشري يفقد حتما جوهر آدميّته لأنّ الأصل في الإنسان أن يكون اجتماعيّا بالقوّة و الفعل. و تحقيقا لهذه العلاقة المجملة بيْن المجتمع و الفرد نكتفي بذكر مزيّة " أم " ( الكلام ) يتفضّل بها الإطار البشري و التي بدونها يكون خليقا بالفرد أن يحشر داخل مجموعة الحيوانات. أسوق في هذا المجال بعض أقوال للجاحظ الذي أعتبره رغم قدم عهده من بين من نفذت بصائرهم إلى الأسرار الخفيّة: " إذا ترك الإنسان القول ماتت خواطره و تلبّدت نفسه، و فسد حسّه. " ( البيان و التّبيين ) – " المناغاة نافعة للطّفل في تحريك النّفس، و تهييج الهمّة و البعث على الخواطر و في فتق اللهاة، و تسديد اللسان، و في السّرور الّذي له في النّفس أكرم الأثر ". ( الحيوان ). لم تكتف التّربية الحديثة بالإيمان و لم ترتح لتطبيق السّبل في هذا النّطاق كيفما اتّفق به آلت على نفسها أن تفهم طبيعة هذه الحياة الاجتماعيّة و أن تستنير بالحقائق العلمية حتّى تضمن للفرد إعدادا إجتماعيا سليما. لذلك ربطت البيداغوجيا المعاصرة صلة وثيقة بعلم النّفس المتبادل بين الأفراد و الجماعات. أثبت هذا العلم الحديث تجريبيا عدّة حقائق استغلّتها التّربية في بناء الطّرق و تنظيم الحياة المدرسيّة – و من هذه الحقائق المستغلّة نذكر: 1. يكون عمل الفرد داخل المجموعة أغزر و أعمق: حضور الجماعة يزيد في السّرعة ( إذا كانت العناية مبتغاة ) و يزيد في الدّقّة ( إذا كانت الدّقّة مبتغاة ) و هذا المكسب يعبّر عنه بالانتماء الاجتماعي. 2. الدّراسات التي تمّت في شأن حركيّة المجموعات أبانت فضل النّظام الديمقراطي على العمل الجدّي. كان العالم النّفساني كورت لوين ( وهو من مناصري سيكولوجيّة الشّكل ) قد أشرف صحبة معاونيه على تجربة ( 1938 ) الغرض منها الكشف عن تأثير سلوك القائد في سلوك المجموعة: " قسّم أطفال مصيف ( وعمرهم 10 سنوات ) إلى مجموعات قصد القيام بعمل مشترك و طلب من المربين تسيير المجموعات مرّة بكيفية تسلّطيّة و مرّة بكيفية ديمقراطيّة. أثبتت النّتائج أن القائد الديمقراطي يوجد بين أفراد المجموعة التعاون و الانسجام فيكون الإنتاج أغزر، أمّا القائد المتسلّط فهو يثير المعارضة و يهزل الإنتاج و يولّد مواقف عدائيّة. إنّ الفردية و المجتمعيّة اتّجاهان أساسيان في التّربية الحديثة و هما متلازمان لا معنى للواحد بدون الآخر، فالفردية و المجتمعيّة عمليتان ملتحمتان ينبغي عليهما أن تتوازنا.

0/Post a Comment/Comments