آثــار جريمة الرشوة وأضرارها

للدكتور / حيدر الصافح |خاص ينابيع تربوية
لقد ابتعد معظم الناس عن ربهم وخالقهم وقطعوا صلتهم به ونسوه ، وظنوا لجهلهم أنهم في الحياة مخلدون وأنهم إلى ربهم لا يرجعون ، قد التصقوا بالأرض ومادتها وركنوا إليها وأصبحوا ماديين يعبدون المادة ويؤلهونها فماتت أرواحهم وسمنت أجسامهم وأقبلوا على تغذيتها بالسحت والرشوة وأكل الحرام بكل ألوانه وصوره حتى غدا العالم يضج من الفساد الذي يترتب من أخذ الرشوة وأكل الأموال بطرق ملتوية ، وإذا كان الكفار يحاسبون مسئوليهم إذا ثبتت رشوتهم ويحاكمونهم ولعلكم تسمعون بين الفينة والأخرى محاسبة اليهود لمسئوليهم ورئيس وزرائهم الآن يحقق معه ويستجوب .
أما نحن في العالم الإسلامي الذي يعيش في ظل حكم جبري من أقصاه إلى أقصاه ، قد فعلنا أعظم مما يفعله اليهود والنصارى والوثنيين في ارتكاب كل خلق ذميم ، فقد أكل بعض المسلمين الربا وتعاملوا به وقد حرمه الله ورسوله وأعلن الله في كتابه الحرب على المتعاملين بالربا ، وأكلت الأموال العامة ونهبت الثروات وانتشر الغش والخداع والزور ، وغدت الرشوة والسحت هي المسيطرة على حياتنا في تعاملاتنا .
الوظائف تشترى ، والشهادات ، والحقوق والأحكام وغيرها حتى لا تكاد تجد مرفقاً ولا وزارة إلا وقد انتشرت فيها الرشوة فلا تنجز معاملة ولا تنهى قضية إلا إذا صحبتها الرشوة ابتداء وانتهاءً ، حتى كادت الحقوق أن تضيع على أصحابها ، وملئت البلاد ظلماً وجوراً وفساداً ، حتى كأننا لسنا المسلمين المخاطبين بالقرآن العظيم الذي يحذرنا الله فيه من أكل الحرام والتعامل به في مثل قوله سبحانه :  وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ  ، جاءت هذه الآية بعد ذكر فريضة الصيام وبيان
أحكامه وكأن الله يقول لعباده : قد أمسكتم عن الطعام والشراب وسائر المفطرات طوال شهر رمضان فإنه يلزمكم صوم من جنس آخر وهو الصوم والامتناع عن أكل مال الغير بالباطل .
والباطل هو كل ما أخذه الإنسان من غيره بغير حق ، فالغش والتطفيف والربا ، والغصب ، وبخس الأجير حقه ، وعدم القيام بمهمة الوظيفة والعمل على النحو الأكمل ، وعدم إتقان الصنعة ، كل هذا وغيره داخل في عموم أكل المال بالباطل ؛ لأنه بدون مقابل .
وقد جاء الإسلام رحمة وبركة وخيراً وبراً ، جاء لينظف المجتمع من الرذيلة والظلم والفساد ، والشرور والآثام ، وأسباب الفرقة والخصام بين المسلمين .
قال العلماء : أكل المال بالباطل له عدد من الصور منها : أن يأكله بطريق التعدي والنهب والغصب .
ومنها : أن يأكله بطريق اللهو كالقمار وأجرة المغني وثمن الخمر والملاهي ونحو ذلك .
ومنها : أن يأكله بطريق الرشوة في الحكم وشهادة الزور .
ومنها : الخيانة وذلك في الوديعة والأمانة ونحو ذلك .
ومعنى الآية الكريمة :  لا تصانعوا الحكام ولا ترشوهم ، لتستولوا على أموال غيركم بغير حق ، فكيف تقدمون على ذلك وأنتم تعلمون أن هذا الفعل باطلٌ وحرام وقبيح .
ولاشك أن كثرة التقاضي بالباطل وشيوع الرشوة في الأمة مقبرة لها ، وخطرها على الأمة أشد من خطر الأعداء الخارجين من اليهود وغيرهم .
ومن شأن الرشوة أنها تفسد الحكم ، وتجعل الحكام يتلاعبون وينقادون للهوى ، ويميلون حيث يحلو لهم الميل ، فيضلون عن الحق ولا يعرفون السبيل إليه وإذا وصل الحكام والمسئولون إلى هذا المستوى من السقوط والانحطاط ، ولم يجدوا من يُقوِّم  انحرافهم فعلى الأمة العفاء .
إن أكل السحت والغش والحرام هو من صفات اليهود الذين نهانا الله أن نفعل فعلهم أو نتشبه بهم ، حتى لا يصيبنا ما أصابهم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة الذين قال الله فيهم :  سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ  وقد ذكرت سورة المائدة عشر خصال لليهود كلها قبيحة وخبيثة أبرزها سماع الكذب وكثرة أكل السحت .
إن آثار الرشوة السيئة تظهر على وجه ونفسية المرتشي من عدم طهارة القلب ورجسه ودنسه ، كما قال الله فيهم :  أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ  ثم ذكرت الآية بعض الآثار العاجلة والعقوبات الدنيوية في قوله سبحانه :  لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ  فالمرتشي ساقط الهمة قليل المروءة ليس له قيمة ولا احترام عند الآخرين وأولهم الذي رشاه يعيش ممقوتاً ملعوناً من الله ومن خلقه .
وأما أثر الرشوة في الآجل فقد جاء في بقية الآية قوله سبحانه :  وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ  فقد ذم الله اليهود ؛ لأنهم يعيشون بالمحاباة ، ويألفون الدناءة ، ويأكلون السحت وهو الحرام والرشوة نوع منه فهي محرمة ؛ لأنها تستأصل الثروة وتفسد المعاملة ، وكان أحبار اليهود ورؤساؤهم في عصر التنزيل وسائر العصور كذابين دجالين ، أكالين للسحت من الرشوة وغيرها كدأب سائر الأمم والمجتمعات في عهد فسادها وانحطاطها .
في هذه الآية وغيرها ينهى الله عباده عن أكل السحت والرشوة والحرام بكل أشكاله وصورة ويحذر عباده من الوقوع فيما وقع فيه اليهود من قبلهم والآيات الواردة في ذلك كثيرة .
وأما الأحاديث الواردة عن النبي  في الزجر والنهي عن الرشوة كثيرة كذلك منها ما جاء عن أبي هريرة  قال : ( لعن رسول الله  الراشي والمرتشي في الحكم ) أخرجه الترمذي وأحمد والحاكم وغيرهم .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : ( لعن رسول الله  الراشي والمرتشي ) ، وفي لفظ : ( لعنة الله على الراشي والمرتشي ) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم .  
واللعن هو : الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى فدل هذا على تحريم الرشوة وأنها كبيرة من الكبائر .
وجاء أيضاً عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي  أنه قال : (الراشي والمرتشي في النار ) .
وفي هذا تهديد ووعيد شديد لكل راشي ومرتشي يبطل الحق وينصر الباطل .
وعن عمرو بن العاص  قال : سمعت رسول الله  يقول : ( ما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب ) أخرجه الإمام أحمد .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً أن النبي  قال : ( من ولي عشرة فحكم بينهم بما أحبوا ، أو بما كرهوا جيء به مغلولةً يده ، فإن عدل ، ولم يرتش ، ولم يحِفْ فك الله عنه ، وإن حكم بغير ما أنزل الله وارتشى ، وحابى فيه ، شدت يساره إلى يمينه ثم رمي به في جهنم فلم يبلغ قعرها خمسمائة عام ) أخرجه الحاكم .
وعن عابس الغفاري  أن رسول الله  قال : ( بادروا بالأعمال ستاً : إمارة السفهاء ، وكثرة الشرط ، وبيع الحكم ، واستخفافاً بالدم ، وقطيعة الرحم ، ونشواً يتخذون القرآن مزامير ، يقدمون أحدهم ليغنيهم ، وإن كانوا أقلهم فقهاً ) صحيح الجامع . والشاهد من الحديث في قوله : ( بيع الحكم ) أما تولية المناصب
عن طريق الرشوة ، أو ما نراه من شراء للذمم والتزوير في أوقات الانتخابات ، حيث تشترى الأصوات وتزور إرادة الناخبين كل هذا وغيره حاصل ، وقد أمرنا بأن نُبادِر بالأعمال قبل حلول هذا الوقت فكيف بنا ونحن نعيش فيه لم يعد الحكم أمانة ومسئولية ولكنه تسلط واستئثار يباع ويشترى ، فعلى المسلم أن يبادر إلى فعل الخيرات وترك المنكرات والتزود ليوم المعاد ، وينكر الشر والفساد ويقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم .
لاشك أن مضار الرشوة مما أجمع العقلاء عليها ، سواء على الفرد أو على المجتمع ، في العاجل أو في الآجل .
ومضار الرشوة تتفاوت بتفاوت موضوعها واختلاف درجات طرفيها ، فهي وإن كانت داء واحداً إلا أن الداء تختلف أضراره باختلاف محل الإصابة به .
فإذا كانت الرشوة في معرض الحكم فإنها الداء العضال والمرض القاتل ؛ لأن الحاكم إذا فسد فسد المجتمع وانهار وقد نص الفقهاء رحمهم الله أن الحاكم إذا أخذ الرشوة انعزل عن الحكم ؛ لأنها طعن في عدالته التي هي أساس توليته .
الرشوة تفسد منهج الحكم في الأمة أياً كان منهجها ، فإذا كان الحاكم يحكم في بلد إسلامي بكتاب الله فإن الرشوة تجعله يغير هذا المنهج ويحكم بهواه وهوى من أرشاه ، وهذا أشد خطراً عليه هو ، إذ إنه يكفر كما استدل ابن مسعود  على ذلك بقول الله تعالى :  وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ  .
كما أن الرشوة تفقد المجتمع الثقة في الحكم فلا يُعَوِّل أحد على منهج القضاء والتحاكم لأخذ الحق ، وعندئذ فلا يكون أمام المظلوم إلا أن ينتقم لنفسه ، ولا عند صاحب الحق إلا الاحتيال لأخذ حقه بيده ، وفي هذا كله ما فيه من الفساد ما لا يعلم مداه
إلا الله تعالى ، وبذلك ينقلب منهج الإصلاح الاجتماعي وتنقلب المفاهيم والموازين فبدلاً من أن يتعاون الناس على البر والتقوى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يكون على العكس من ذلك كله وفي هذا مضيعة للأمة كلها كما ضاعت أمة بني إسرائيل كما قال تعالى في موجب لعنهم :  كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ  .
وفي الرشوة إعطاء فرصة والتمكين لكل مبطل ليتمادى في باطله ، فتسلب الأموال وتنتهك الأعراض وتسفك الدماء بدون أي مبالاة ، تعويلاً على أنه سيعبر على جسر الرشوة دون أن يلقى جزاءه ، ومن مجموع كل ذلك ستقع الفرقة والشحناء والتقاطع في المجتمع ، ويدخل في ذلك كل من ولي أمراً للمسلمين فلم ينصح لهم حين يرى الرشوة ولكنه يتغاضى عنها بالنسبة إلى من تحت ولايته وإن كان هو عفيفاً فهو ملوم غشاش ، إن كان في استطاعته منعها ومعاقبة مرتكبيها ثم لم يفعل .
قد تكون الرشوة في منافذ البلاد وعلى حدودها فيتم تهريب أطفال ونساء وثروات وآثار إلى خارج البلاد مقابل رشوة تدفع لهذا المسئول أو ذاك .
وقد يدخل إلى البلاد السموم والمفاسد والبضائع الفاسدة والمغشوشة والأدوية المزورة وغير ذلك يحصل كل هذا وغيره مقابل رشوة يستلمها موظف دنيء النفس ساقط الهمة عديم الذمة ، يجر على البلاد والعباد الويلات والشرور ، وكم من أمور تجري وتتم في تلك المواقع التي تشترى وتباع .
وقد تظهر الرشوة عند التوظيف أو التعاقد مع العاملين فيتعاقد مع غير الأكفاء بسبب ما يقدمونه من الرشوة ويترك الأكفاء لتعففهم وعزة نفوسهم ، واعتدادهم بخبرتهم وكفاءتهم ، وفي ذلك من المفاسد والمضار على الأمة والمجتمع والدولة ما فيه .
وهناك المضار الفردية التي تعود على المجتمع ؛ لأن الفرد جزء
منه ، وما يؤثر على الجزء يؤثر على الكل ، وللرشوة تأثيرها على الفرد على طرفيها الراشي والمرتشي من خبث ودنس للقلب وذلة النفس وصغار المرتشي وأول ما يكون ذلك الاحتقار والصغار له عند راشيه وشريكه في الجريمة .
ومن آثارها إماتة الضمير في الموظف والعامل فلا يخلص في عمله ولا ينجز ما وكل إليه إلا بأخذها .
ومن آثارها إضعاف الكفاءات فلا يُجْهِد المجد نفسه في تحصيل مقوماته الشخصية وصقل مواهبه لثقته بالوصول إلى مطلبه عن طريقها ، كما يعول بعض الطلاب على الغش في الامتحان لقناعتهم بأنهم سيحصلون على النجاح وعلى أعلى الدرجات مقابل سحت ورشوة تدفع لضعاف النفوس من العاملين في حقل التربية والتعليم الذين يسعون لتدمير البلاد وتحطيم الأجيال وقتل المواهب والإبداعات لدى الطلاب النابهين والجادين ، هذه جريمة تتم أمام سمع وبصر المجتمع والدولة ثم لا يعاقب مرتكبوا هذه الجرائم الجسيمة ، وإن هذا لدليل ضعف وسقوط المجتمع والدولة على حد سواء في مستنقع الرشوة والسحت وأكل الحرام ، أو التغاضي عنه والسكوت عليه وأيم الله إن هذا لمنكر لا يحل ولا يجوز السكوت عليه قال رسول الله  : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) .
إن الرشوة داء خطير يقوض بنيان الدول والمجتمعات وهذا يحتم على الجميع محاربتها وإنكارها ومعالجة المجتمع من دائها .
إن وضعنا الذي وصلنا إليه وضع مزري حتى الكفار عباد الصليب والبقر ينكرون ويشنعون علينا هذا الفساد عبر التقارير الدولية والإقليمية أفلا نستحي من الله ومن خلقه ونقلع عن هذه الرشوة والسحت .
إن الأمر يتطلب سرعة العلاج وطريق العلاج لأي داء إنما يبدأ
بتشخيصه ، ثم بمنع مسبباته ، ثم علاج أعراضه ومضاعفاته وإذا كنا قد أشرنا إلى التشخيص وأوضحنا بعض الأسباب وهي مشاهدة وملموسة والمضاعفات تتزايد فلم يبق إلا منهج العلاج .
ومن المعلوم أن المرض الشخصي يتحمل مسئوليته الشخص المختص به ، وإذا كان الوباء جماعياً تتحمل الجماعة مسئولية التعاون على علاجه ودفعه .
والرشوة جمعت بين الأمرين الشخصي والجماعي ، فعلى الجميع أفراداً وجماعات واجب التعاون على العلاج والقضاء عليها ، وقد رسم لنا القرآن الكريم والحديث الشريف منهج العلاج ، أفلا نبادر إلى العمل والتنفيذ ؟


0/Post a Comment/Comments