حقيقة أزمة حزب المؤتمر من أجل الجمهورية انطلاقا من فعاليات المجلس الوطني بالقيروان

المهدية في 24/02/2013
تشخيص حقيقة الأزمة التي يتخبّط فيها الحزب
 انطلاقا من فعاليات المجلس الوطني
 المنعقد بالقيروان في 16/02/2013
247480_206030249436072_6921552_n.jpg
                                                                                                          بقلم: فتحي بن الفقيه سعيد
عضو منتخب في المجلس الوطني
فكّرت في البداية أن أجعل حديثي هذا عنوان مداخلة في المجلس الوطني المقبل في محاولة للوقوف على المجريات الحقيقية التي حفّت بالأزمة التي لا يزال حزب المؤتمر من أجل الجمهورية يتخبّط فيها بعد أن عصفت به الأهواء و تقاذفته الأنواء إلى ما لا تحمد عقباه. و لولا لطف من الله وتشبّث بالمبدأ من أناس دأبوا على النضال من أجل الحقّ وخدمة للوطن لما بقي من الحزب غير شظاياه. و لعلّ خطورة ما آل إليه الوضع هو الذي دفعني إلى المسارعة بالتشخيص من زاوية نظر مشارك في أعمال المجلس الوطني حتى يكون الكلام على علاّته ومن منطلق تجربيّ بحت، ثمّ من أجل تقديمه كموضوع مشترك للحوار يتطلّب بالضرورة التفاعل الإيجابيّ لا من أجل المزايدة و تسجيل المواقف وإنّما من منطلق المسؤولية المشتركة التي هي واجب كل فرد في حماية هذا الكيان المشترك بيننا حتى يعمّر لأجيال وأجيال . فمن المخزي أن يُنتج مخاض الدكتاتورية مولودا تُعدمه الحرية وتعبث به الديمقراطية. من أجل هذا سارعت بالتشخيص لأشرككم في ما يحتاجه ــ وفق تصوّري الشخصي ــ حزب المؤتمر من أجل الجمهورية حتى يتعافى ممّا أصابه. وليتأكّد الجميع أنّ الدواء منّا وإلينا.
ثلاثة قواسم مشتركة مطلوبة أصلا في الممارسة الحزبية. ويختلّ التوازن متى أسأنا التصرّف فيها وعبثنا بها أو ببعضها. وأقصد بها الثالوث المجمّع للنواة الحزبية وهي : الانضباط ــ الالتزام ــ الوضوح. حقيقة أسوقها بكلّ تأكّد، أنّ المشكل في حزبنا لا يكمن في الأفراد من حيث تفكيرهم وقناعاتهم ومطامحهم. المشكل بالأساس في الأسلوب و زاوية النظر وتقدير الموقف. ولو تمّ عرض هذه الرؤى بطريقة نخبوية قائمة على المحاورة الفكرية لأمكن تجاوز الأمر بأقل التكاليف. أمّا وقد تحوّلت النقاشات إلى مناوشات، والأفكار إلى مزايدات، والمواقف إلى مصالح فقد ضيّعنا المسار وأضعنا المشوار. و لا بدّ من الانطلاق من ممارسات بعينها لنقف على خطورة ما آل إليه الوضع داخل حزبنا لا لنحمّل بعضنا تبعات الأزمة بل لنتشارك كل من موقعه من أجل تجاوز الأخطاء التي وقعت بفعل الاستفزاز أو سوء التقدير. المهم أن ننجح في رصد الخطأ ومن ثمّة تحديد سبل معالجته وقتها نستطيع القول إنّ الضربة التي لا تقضي عليّ تقوّيني.
أمّا الانضباط فهو مفقود في ثقافتنا الحزبية في المؤتمر، ربما لأنّ الحزب مازال يحتكم إلى تلك الروح النضالية التي جمّعت قيادته بحيث جعلت من الالتزام قاسما مشتركا و أولوية مطلقة، و ربّما أيضا لأنّ هياكله مازالت فتية لم تتمرّس بعد بآليات الإجراءات الإدارية التي هي مطلوبة في مرحلة تنظيمية بعينها وأقصد بها مرحلة البناء الحزبي التي نحن في أوجها. ولنكن عمليين، لقد سنحت لي الفرصة لأراقب من منصّة رئاسة المجلس الوطني المشهد في كلّياته و بأدقّ تفاصيله لمّا استقدمني الصديق شكري يعقوب لأكون مساعدا له في إدارة الجلسة .       و يقتضينا الإنصاف أن ننوّه بالروح المتحضّرة التي ميّزت شخصية الأستاذ شكري يعقوب من حيث برودة أعصابه و رصانة ردوده ممّا خفّف من درجة الاحتقان وأعاننا على إتمام ما قُرّر في جدول الأعمال. وإن كان عليه مؤاخذة فتتمثّل في تسامحه المفرط الذي قد يكون شجّع البعض على الخروج عن حدود اللياقة. فقد تجلّت العدوانية تجاه رئاسة المجلس من خلال جملة من السلوكات الاستفزازية من قبيل التذكير بالنشيد الرسمي أو رفض جدول الأعمال الذي وزّعته إدارة الحزب وهو لم يكن أكثر من مقترح معروض للنقاش والمصادقة. وليس صحيحا ما ذكره البعض ( الأستاذ معطر ) من أنه لا أحقية لرئاسة المجلس في اقتراح جدول أعمال، وأنّ جدول الأعمال يكون وليد لحظته لأنّ هذه الممارسة تسقطنا في الارتجالية التي لا تعبّر عن إعداد أو استعداد. صحيح أنّه لا يحقّ لرئاسة المجلس أن تفرض جدولا بعينه أو تمرّر برنامجا دون نقاش أو مصادقة ولكنّها مطالبة بأن تتقدّم بمقترح كحدّ أدنى لجدول أعمال يقرّه أعضاء المجلس. على كل، كانت البداية ساخنة و أخفت موقفا من رئيس المجلس ربما لكونه ذهب في فرض مجلس استثنائي لم يكن محلّ إجماع. ثمّ تتالت الخروقات كمحاولة قلب جدول الأعمال والتشويش على السير الطبيعي للجلسة. فتحويل الموضوع إلى عرض وجهات نظر المكتب السياسي إلى درجة أن اختلط الحابل بالنابل. صحيح أنّ المكتب السياسي باعتباره المسؤول التنفيذي في الحزب مطالب أن يأخذ الكلمة قصد إعطاء الإعلام الشافي الكافي ليكون منطلقا للنقاش، لكن لا يعني ذلك أن تتوزّع الكلمة على كلّ أعضاء المكتب السياسي ليتحوّل كلّ واحد منهم مدرّسا يلقي بمحاضراته هنا وهناك، بموجب و بدون موجب. كان من المفروض أن يختار المكتب السياسي من ينوب عنه في عرض موقفه عند بداية كل نقطة من جدول الأعمال قبل أن يباشرها أعضاء المجلس بالنقاش، أو أن يفوّض عنه من يقدّم إعلاما كافيا كنقطة أولى في جدول الأعمال( كأن يتكفّل الأمين العام مثلا بهذه المهمة في بداية الجلسة ). و تبقى لأعضاء المكتب السياسي كلماتهم صلب النقاش على غرار زملائهم أعضاء المجلس الوطني، فما على الراغب في أخذ الكلمة إلاّ تسجيل اسمه في القائمة وانتظار دوره تكريسا للديمقراطية وفرضا للعدالة. أمّا افتكاك الكلمة بدعوى أحقية المكتب السياسي في الاستئثار بالتدخل من حيث الأولوية والمدّة الزمنية وحرية الحديث دون رادع فهذا يسقطنا في الطبقية و يخلط بين المهام كعضو مكتب سياسي مطالب بالإجابة عن استفسارات المجلس والوطني وبين مهامه كعضو مجلس وطني له رأي فيما هو مطروح. ولنا في تدخّل الأستاذ عزيّز كريشان خير دليل على هذه الازدواجية حيث انبرى الصديق عضو المكتب السياسي في الزجر إلى درجة التوبيخ وفي التعالي إلى درجة التطاول لمّا يقول : " إحنا الشوفرا...إحشموا على رواحكم...إثنيوا الركبة واخدموا " وفي كل كلمة يتعالى التصفيق زيفا وبهتانا. فلا الكلام أقنع ولا التصفيق أفحم، بل على العكس كانت تداعياته وخيمة من حيث شقّ الصفّ إلى ضفّتين. كان بودي أن أرُدّ على الأستاذ كريشان بأنّكم فعلا قاطرة الحزب لكن نحن من أعطاكم رخصة القيادة وهي متداولة بيننا، ثمّ إنّ السائق الماهر هو من يضمن السلامة لنفسه و لمرافقيه، وليس أضمن من تطبيق القانون قانون الطرقات الذي يجعلنا نتجاوز الرعونة في القيادة وفق الأصول حتى نصل إلى نقطة الوصول. أسلوب فرض أمر الواقع من حيث افتكاك الكلمة بدون موجب والتصفيق المبالغ فيه بلا طائل عكس اعتداء على تسيير الجلسة واغتصابا للفاعلية بحيث توهّم البعض أنّهم قادرون على توجيه مسار المجلس الوطني الوجهة التي يرتضونها. وهنا جاءت بقية التجاوزات من قبيل الانزواء في مجموعات ضيّقة والتشويش على السير الطبيعي للمجلس ولم تنفع ملاحظات السيد رئيس المجلس في إثنائهم عمّا انتهجوه. أو تعمّد التدخين داخل القاعة بما في ذلك كل أشكال الضرب مع الممارسة المتحضّرة. أو توزّع أعضاء المكتب السياسي كل مع رفقائه في ثنايا القاعة والحال أنّهم من المفروض أن يوجدوا مجتمعين في صدر المجلس لأنّهم على ذمّة الاستفسار من أعضاء المجلس. أو الصخب عند بداية التصويت ثمّ التهديد بالانسحاب والاستقالة، كلّها ممارسات بعيدة كلّ البعد عن الانضباط. وإذا لم يتم التصدي لها فلن نجني غير الفوضى وقلّة الاحترام فيما بيننا أوّلا ثمّ من الغير بعد ذلك. الخوف كل الخوف أن تخرج ردود الأفعال هذه عن سياقها العادي لتتحوّل إلى تعبير عن رفض للهياكل الحزبية الفاعلة بمقتضى القانون الداخلي للحزب. ولهذا وجب التعاطي مع مثل هذه التجاوزات بعين العقل بحيث نفصل ما كان تعبيرا عن حماس مفرط عمّا هو تعمّد للإساءة لهياكل الحزب ومرجعياته. ردود الفعل الأولى يتكفل بها التوجيه والتثقيف أمّا الثانية فتحتاج الردع عبر تطبيق صلاحية لجنة النظام في التصدّي لكل الخروقات الضاربة لوحدة الحزب وتماسكه.
و بالنسبة إلى الالتزام، فقد بدا التحوّل فيه محيّرا لأنّه كان أصل الممارسة النضالية في تاريخيتها، و روح المواجهة مع كل مغتصب لمبادئنا. وعليه كان من الواجب أن تكون مبادئنا التي هي التزاماتنا هي الجامع بيننا . فلا يمكن أن تدخل حيّز الخلاف، ولا أن تتبدّل وفق نظرة الأفراد، ولا أن تؤخذ من جانب أو جوانب . بل هي في مقام البديهيات باعتبارها من الكليات على غرار الديمقراطية والسيادة والكرامة والشرعية وغيرها من المبادئ التي تمثّل المرجعية الفكرية للحزب. فكيف يمكن والحال على ما ذكرنا أن تتحوّل قرارات أخذت بطريقة ديمقراطية في هياكل شرعية مكفولة بسيادتها وفق نص صريح في النظام الداخلي للحزب إلى شكليات بيروقراطية؟ أو كيف نجعل من مبدأ بديهيّ مسألة خلافية نعرضها في إطار أولوية السياسي على القانوني؟ إنّ الخروج من البيّن إلى الغامض فيه تمويه، وتجاوز البديهي إلى التأويل فيه تلاعب، والنزول من المبدأ إلى الممارسة فيه مغالطة. قد نقبل الحديث عن الشكليات الإجرائية أو البيروقراطية إذا تعلّق الأمر بقرينة إدارية لا علاقة لها بالجوهر والأصل. أمّا الديمقراطية كمبدأ فهي تتسامى عن الشكليات لتمثّل منهج التواصل بين الهياكل والأفراد. وهي من هذا المنطلق ليست وسيلة أو أداة بل هي مسار، ملحمة ، تفاعل ينتج عنه فعل لا يمكن أن يغيّر إرضاء لنزوات أو مطامع. وعليه لا حديث عن أولوية السياسي عن القانوني إلاّ كالحديث عن المبدأ المكيافلي " الغاية تبرّر الوسيلة " إذ السياسي إفراز والقانوني هو المفرز والأصل للصانع لا للمصنوع . لهذا لا يجب أن نقايض المبدا بالمصلحة لأنّنا نفقد أهدافنا ونسقط في العبثية. وهو أصل المشكل الذي وقعنا فيه لمّا أردنا أن نربك العلاقة بين العرض والجوهر وأعطينا الأولوية لما هو حادث عمّا هو أصل فسقطنا في اللامنطق.
نأتي الآن إلى الوضوح الذي هو متّصل بأهدافنا وتمشّياتنا، لقد تحدثنا في العديد من المواضيع ذات العلاقة كالتناغم بين العلماني المعتدل والإسلامي المعتدل، أو فاعلية حزب المؤتمر في إطار الترويكا، أو نجاح تجربة الترويكا أو غيرها من المسائل التي قاربت الوضوح دون أن تلامسه. وفي هذا الصدد أقول إنّ المشكل في الخط السياسي للحزب لا يكمن في المسألة الإيديولوجية باعتبار التقارب بين العلماني والإسلامي. فقد تمّ بالفعل هذا التقبّل في إطار مقاربة مدنية واضحة المعالم على أساس التلاقي بين الحقوق الكونية والتشريعات الإسلامية في عموميتها. المشكل في تصوّري هو سياسي بالأساس ويرتبط بعلاقة حزب المؤتمر بحركة النهضة. هذا الموضوع بدا من المحرّمات في تحليل طبيعة التحالف السياسي، و من المسؤول الفعلي عن تأزّم الأوضاع في البلد ودرجة مسؤولية المؤتمر في هذا التخبّط السياسي الذي عاشته الترويكا. آن الأوان لأن نكشف القناع عن حقيقة علاقتنا بحركة النهضة، وكل تمويه في هذه العلاقة لن يؤخذ على محمل الجد لأنه لم تعد تنطلي علينا تلك التبريرات البطولية الوهمية من قبيل فاعلية المؤتمر في النهضة ونجاحنا في دفعها ناحية ما نريده على غرار قبولها بالفصل الأول من الدستور أو موافقتها على النظام الرئاسي المعدّل بدل النيابي الصرف إلخ. صحيح أنّ حزبنا لعب دوره في هذا الجانب لكن لصالح حركة النهضة والدليل أنّه كلّما زادت حركة الحزب إلاّ وضاق عليه الخناق ( انشقاق العيادي بعد انتخابات 23 أكتوبر و بسبب ثقل ضغط النهضة ) فالفاعلية تقتضي أن يوسّع الفاعل من دائرة حركته بحيث يجد نفسه أكثر راحة وتوازنا هذا ما يفرضه منطق الطبيعة إلاّ أنّنا مع كلّ حركة نجد أنفسنا مخنوقين حدّ الانفجار لأنّنا لا نفعل بل نسقط في ردّ الفعل أو على الأقل نفعل لغيرنا على غرار ما قُرّر في المجلس الوطني بقفصة ليفعّل في المجلس الوطني بتونس ليتمّ التراجع عن كلّ القرارات في الندوة الصحفية بتاريخ 11/02/2013 ( الانفجار في المجلس الوطني بالقيروان ) لم يعد من الممكن الهروب إلى الأمام لأنه يجب علينا أن نحلّ مشاكلنا وأن نتحمّل مسؤولية أخطائنا. وجب أوّلا وبالذات أن نعترف أنّنا كنّا ذيلا للنهضة، لم تعاملنا كشريك ( لا ظرفي ولا استراتيجي ) بل زيّنت بنا مشهدها من أجل تحقيق التغطية الخارجية وفي المقابل ذلك الفتات المعروف. لا بدّ من تقييم التجربة بكلّ شجاعة و وضوح و عقلانية. ننظر ماذا ربحنا وماذا خسرنا، ندرس طبيعة علاقتنا بالنهضة كحركة حاكمة، والطريقة الواجب اتباعها في التعامل معها، نتلمّس موقعنا في الحكم وفي المعارضة وننظر في أقوم السبل لامتداد الحزب طبيعيا في المشهد السياسي التونسي وفق نظرة استشرافية واعدة...هذا ما أراه، والبقية تأتي إن شاء الله من تفاعلكم...

0/Post a Comment/Comments