هل كان لنا وجود قبل ان نولد؟


مقال رائع للدّكتور مصطفي محمود يلازمنى إحساس منذ بدأت أعى وأدرك وجودى أنى كنت موجودا دائما وأنى حقيقة ولست أمرا طرأ بالميلاد، وأنّى كنت هنا أو هناك فى مكان أو لا مكان لست أدرى .. إنّما هو إحساس دائم ومؤكد بالحضور لا أعلم كنهة ومصدره .. وكل ما يحدث أمامى الآن هو مرور شريط متتابع لأحداث متتالية لماضى وحاضر ..وهو شريط يمرّ أمامى ولكنّى فى الأعماق خارج عن هذا الشّريط ،واقف على عتبة حضور مستمرّ وآنية مطلقة لا تعرف تزامنا .. أراقب تصاريف الزّمن امامى عن بعد، وأراقب طفولتى وصباى وشبابى وشيخوختى دون أن تدركنى أنا أىّ شيخوخة، فأنا .. ذاتى .. شباب دائم وحضور دائم،ويؤيد هذا الإحساس الدّاخلى حقائق الدّين التى تقول بأنى أحاسب وأعاقب وأموت، وإنّما انتقل الى حياة برزخية ثم الى بعث ثم الى خلود فى نعيم، أو خلود فى شقاء ..فأنا إذا خالد ..وأنا لست مسألة طارئة استجدّت بالميلاد وستنتهى بالموت ومنطقية لو أنّى كنت أمرا طارئا زائلا لما كنت حقيقة بل مجرد ظاهرة موقوتة تلمع ثمّ تختفى فلا تعود.

هناك حكمة فى بعث وحساب وعقاب ....وفى القران الكريم إشارة خاطفة الى هذه السّابقة الوجودية قبل الميلاد ( لقد خلقنا الانسان فى أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين الا الذّين آمنوا وعملوا الصّالحات فلهم أجر غير ممنون )4-التّين". ومعنى ذلك أنّه كان هناك خلقة أولى على أحسن تقويم ..وهذه الخلقة لا يمكن ان تكون خلقتنا التى نعرفها فى الدّنيا بجسمنا الّذى يتعب ويمرض ويتلف ويشيخ ويموت.

الله يصف كمال خلقه السّماء فيقول: ( أفلم ينظروا الى السّماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ) -ق 6- أي ليس بها ثغرات أو نقاط ضعف، ومع ذلك فقد جعل الله فى خلقتنا فرجا وثغرة هى مدخل الشهوة والهوى بل إنّه سمّى هذا الفرج سوأة وعورة، وقال فى ما فعل ابليس بآدم وحواء بأنه ( ينزع عنهما لباسمهما ليريهما سوأتهما )” 27-الاعرافف" كيف يكون الخلق الذى جعله الله فى أحسن تقويم ثغرة وسوأة وعورة، ولماذا سمّى حياتنا هنا بالحياة الدّنيا (أى الواطئه والسّافلة) إلّا ان تكون تلك الحياة هى أسفل سافلين التى رددنا جميعا اليها بعد النشآة الكاملة فى أحسن تقويم ..

أهبطنا الله فى هذه الجبلّة الطينية التى بها الفرج والسّوأة لنعيش حياة الابتلاء والمعاناة والمكابدة .. ” ولقد خلقنا الانسان فى كبد ” يحرمنا ممّا نحبّ ويحملنا ما نكره، ليرى كيف يكون صبرنا واحتمالنا، ولتظهر بذلك صفاتنا، و يظهر الانسان على حقيقته إذا جعل ما يكره، فهنا تفاضل النّفوس، فهناك نفس تحمد وتشكر ولا تعترض وتفوّض الأمر الى الله، وهناك نفس تعاتب بها وتحتج .. وهناك نفس تسبّ الملّة والدين وتتشاجر مع الله ومع النّاس .. 
وهناك نفس تتعجّل فتسرق وتقتل وتعتدى لتصلح حالها وتنهى حرمانها ..وهكذا تتفاضل النّفوس وتظهر الحقائق، ومن أجل هذا خلق الله الدّنيا وأنزلنا الله هذا المنزل فى أسفل سافلين لتظهر لنا حقائقنا. 
ما خلق الله السّماوات والأرض الا بالحقّ و للحقّ ولإظهار الحقّ، وفى آية أخرى يقول ” نحن خلقناهم وشددنا أسرهم ” 28-الانسان" ولقد فهم السّلف ” شدّ الأسر ” بأنّه أشبه بشدّ دعائم البناء وتقويته .. ولكنّى أقول: ولماذا لا نأخذ المعنى على ظاهرة بأن الله وضعنا فى الأسر فى أسر هذه الجبلة الطينية وشد وثاقنا وبهذا أنزلنا من مرتبة الخلق فى أحسن تقويم الى عالم أسفل سافلين وهو انضباط عام لا استثناء فيه .. وإنّما استثناء الصّالحين فى الآية .. هو استثناء فى الأجر بعد الموت” إلا الذين آمنوا وعملوا الصّالحات فلهم أجر غير ممنون “ فالصّالحون أيضا يردون معنا الى أسفل سافلين ولكن لأنّهم صبروا واحتسبوا وسابقوا الى الخيرات فلهم بعد الموت والخروج من عالم أسفل سافلين أجر غير مقطوع فى الجنّة ..
أما المجرمون فمصيرهم بعد الخروج من أسفل سافلين بالموت العقاب بأسفل سافلين أخرى هى العذاب الأبدي فى الآخرة .. فهم فى أسفل سافلين أبدا ..ثم أنّنا نرى إشارات أخرى لهذه السّابقة وهذا الوجود العلوي فى أحسن تقويم قبل النّزول الى أرحام ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنُنّ به ولتنصرنّه  )” 81- ال عمران".

أين وكيف جمع الله النبيين واذ عليهم الميثاق مجتمعين ونحن نعلم أنّهم جاءوا الى الدّنيا متفرّقين متباعدين بالموت والميلاد الا ان تكون تلك الجمعية حدثت فى عالم آخر ومستوى آخر من الخلق ثم ّلماذا يقول المجرمون يوم انكشاف الحقائق ساعة البعث والحساب ( ربّنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ) -11 غافر-.

متى كانت هاتان الموتتان ونحن لا نعلم ولا نرى الا ميتة واحدة؟ 
إنّ هذا الكلام وثيقة هامّة تؤكد وجود حياتين وموتتين .. ومعنى الموت ليس الإعدام والملاشاة ولكن النّقل من حال الى حال، فالله يسمّي النّقل من الحياة الدّنيا الى الحياة البرزخية موتا وإماتة،وبهذا المعنى يمكن ان نفهم الإماتة الأولى المذكورة فى الآية بأنّها كانت الإماتة عن الخلق الكامل فى أحسن تقويم، وأنزال النّفوس فى الأسر .. فى أسر الجبلّة الطينية تعيش وتكابد بفروجها وسوآتها فى أسفل سافلين، ثم تأتى الموتة الثانية بالنّقل من هذا الحال من البلاء ، الى حال الحياة البرزخية فى القبور .. ثم يكون الإحياء الحقّ بالنّفخ فى الصّور والبعث .. فتلك حياة  ( حياتنا الأولى فى أحسن تقويم،وحياتنا فى الآخرة ) ولا تحسب الحياة البرزخية فى القبور حياة لأنّها حياة ناقصة شبحية وكذلك حياتنا الدّنيا فهى الأخرى ناقصة وفانية وزائلة ومعيبة .. ” يا قوم إنّما هذه الحياة الدّنيا متاع " 39 – غفر" وأن الدّار الآخرة لهى الحيوان "– 64- العنكبوت – أى لهى الحياة الكاملة الحقّة ،وحياتنا الدّنيا التى خيل إلينا أنّها سنوات طويلة مديدة سوف نرى حين البعث أنها لم تكن أكثر من ساعة من نهار " وكأنّهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا الا ساعة من نهار" فهى إذا حياة لا تساوى شيئا، فنحن إذا أمام حياتين كاملتين – حياتنا فى أحسن تقويم قبل الميلاد وحياتنا فى الآخرة بعد البعث، ثم ذلك المشهد الذى استخرج فيه الله ذرية آدم من ظهره قبل ميلادها وقبل مجيئها واشهدها على ربوبيته فاعترفت وشهدت بذلك ..

متى وأين وكيف كان ذلك ..؟!! ( واذا أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم قالوا بلى شهدنا .. أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنّا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما اشرك آباؤنا من قبل وكنّا ذرية من بعدهم .. أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) " 172-173 -الأعراف" 
فذلك كلام وحوار بين الله وبين كلّ نفس .. منفردة أو الكلّ مجتمعين .. الذّرّية كلّها .. لا أحد يدرى .. يقول فيه للعالمين: "ها أنذا قد جئت بالابن قبل أن يولد أبوه"  ( وذلك قلب لمفهوم الزمن وإتيان بالمستقبل قبل الحاضر )، ولا ندرى أين ومتى وكيف كان هذا الاشهاد، وقد أقرّت جميع النّفوس وقالتّ:" .. بلى شهدنا يارب"  ثم الحديث النّبوى الثّابت والصّحيح الذى يقول فيه النبى عليه الصّلاة والسّلام : (كنت نبيا وادم يجدل فى طينته) فهذا إذن وجود سابق وخلق سابق على الميلاد وقد فهم عنه الصوفيون نظريتهم التى يردّدونها فى الحقيقة المحمّدية .. فمحمّد عليه الصّلاة والسّلام وإن جاء آخر الأنبياء فى البعث الا أنّه خلق أوّلهم بالحقيقة وذلك هو الخلق النورانى فى أحسن تقويم، ويلزم القول أنّه أمر لم ينفرد به النبى عليه الصّلاة والسّلام بل أنّ لكلّ منّا حقيقة سابقة على ميلاده هى خلقه النّورانى الأوّل قبل النّزول فى الطّين والخلق فى الأرحام، كلّنا كانت لنا سابقة وكنّا حقائق قبل أن نصبح أجسادا،والسّؤال الأكبر .. هو .. ماذا قيل؟ .. وماذا كنّا قبل خلقنا فى أحسن تقويم وقبل تسويتنا شخوصا نورانية .. وهل كنّا عدما معدوم؟: .. إن ّالله يقول :(  وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ) "9-مريم" .. فنفى الله عنّا الشيئية، ولم ينف عنّا الهويّة قبل الخلق فى آية اخرى:     ( وإنّما قولنا لشيىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون  )- 40  النحل- فهذا المخلوق إذا أردناه، نقول له كن فيكون، فكلام الله يتوجّه الى هوية فى العدم. نقول: "لمن" .. تلك هوية كائنة قبل أن تخلق، وهذا توكيد بأنه كانت لنا هوية فى العدم، وإنّنا لم نكن معدومين قبل تسويتنا فى تقويم ( أين كنّا؟ .. وأين كان ذلك؟ ..) يقولون أنّ في العلم الالهى المحيط الذى لا يعزب عنه ترفة، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة، كنّا أسرارا مكنونة معلومة فى خريطة علمه بشخوصنا وحقائقنا وخيرنا وشرنا وطبائعنا وفى ذلك يقول ابن عربى:" إن التّشخيص الأزلي ليس عارضا" وهو يسمي هذه الأسرار المكنونه فى خزينة العلم الإلهي وفى كنوز الأعيان الثّابتة، ويقول أنّها قديمة وأزلية وليست بجعل جاعل.
ولهذا يقول ابن عربى: ان الله يخاطب المجرمين يوم القيامه قائلا:ما حمنا عليكم ولكن هكذا كنتم اى هكذا كنتم اشرارا منذ الأزل، ولم أخلق شرا وإنّما وضعتكم فى منازلكم ومراتبكمـ ولم أجبركم على أحد بظلم ولو عرفتمونى وسألتمونى الفضل لأعطيتكم، ولكنّكم أنكرتمونى ورفضتم رحمتى ورددتم يدى فاخترتم أن قطعتم الحبل بينى وبينكم فى الدّنيا، وناديتكم فلم تسمعوا ووعدتكم فلم تلبوا،وتلك منتهى الحرّية والمسؤولية لا جبر ولا قهر على شيىء، الكلّ تلقّى النّداء، والكلّ امثلت آليته بآلية الرّحمة والقيت إليه النّذر وحفّت به الملائكة تدعوه بالخواطر الطيّبة، وجاءه الرّسل والأنبياء والكتب والمنكرون والمعلمون، والذى لم يتيقظ من غفلته حاولنا ايقاظه بالبلاء وبالمكاره والمصائب حتى استنفدنا معه الاسباب تلك حياة ممتدة إذن .. ووجود ممتد .. له فصول .. فصل بعد فصل وخلق بعد خلق .. لم ننقطع عن الحضور لحظة منذ الأزل وإنّما ظلنا فى انتقال من حال الى حال .. لم يكن أمرنا أبدا عدما معدوما، لهذا يحدث دائما ان نحبّ أحدا دون مقدّمات .. أو ننفر منه دون مقدّمات .. أيكون هذا الشّعور لمعرفة سابقة ولقاء سابق قبل الميلاد فى ذلك الغيب الأوّل .. أهى ذكرى باهتة لتلك النّفوس التى تعارفت وتنافرت وتحابت وتناكرت منذ الأزل؟ ألهذا يكرّر القرآن الكريم دائما ( ولعكم تذكّرون ) 152- الانعام ( فذكّر إنّما أنت مذكّر ) 21- الغاشية ( إن هو إلا ذكر وقرآن مبين )  69 – يس-  ( كلا إنّه تذكرة فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التّقوى وأهل المغفرة ) 54 – المدثر ( فما لهم عن التّذكرة معرضين  ) 49 – المدثّر (  يومئذ يتذكّر الإنسان وأنّى له الذّكرى )  23- الفجر (  يوم يتذكّر الانسان ما سعى )  35 – النازعات – (  فذكّر ان نفعت الذكرى ) 9- الاعلى       ( ذلك ذكرى للذاكرين  ) 114 – هود.

كل القرآن ذكر وتذكير وتذكرة وذكرى، ومشهد استحضار الذريّة من ظهر آدم قبل ميلادها، واشهادها على الربوبية تذكير وتصوير وتجسيد إجباري علمي واقعي لهذه القصّة التى سوف تتعدد فصولها ..آتعنى تلك الآيات اّنه كانت لنا حياة قبل ان نولد .. ؟ الله أعلم بكتابه .. ولا داعى تفسيرا .. إنّما هى محاولة فهم قد تكون خاطئة، والأمر يصيب الإنسان بالخوف والرّهبة والخشية والدّوار اذا استجمعه كلّه فى ذهنه، فما خلق الله السموات والأرض ليلهو، وما خلق الإنسان سدى  (  وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين ) 38 – الدّخان ( ربّنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك )191- آل عمران  ،والأمر جاد ولا عبث هناك ولا ندرى متى يأتى الموت وتنصب الموازين وتنكشف الحقائق وتهتك الأسرار،وإدمان التأمّل يورث الرّجفة فى القلب.

ماذا فى سرائرنا ؟ وماذا تخفيه الضمائر ؟ وماذا تبطن النيات وهل تستخفى فى صدورنا الحمائم أو الافاعى ؟
لهذا خلقنا الله وخلق لنا الدّنيا ونقلنا فى الأحوال، وداول علينا الأيّام واللّيالى ليكشف لنا المستور والمكنون والمكتوم من نفوسنا( سنريهم آياتنا فى الأفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنّه الحقّ ) 53- فصلت- نعم إنّ الأمر صدق وحقّ .. ولا شيىء يستحقّ البكاء من الإنسان أكثر من خطيئته ولا شيىء يستحقّ ان يتمزّق له القلب أكثر من أن يخطىء وهو يعلم أنّه يخطئ ويتروّى وهو يعلم أنّه يتردّى، إنّه لا فضل له أن يتمزق ألف قطعة كل قطعة تتألم وتتعذب، ولا يرتكب الخطأ، ولو علمنا التقوى وذلك هو العلم الذى يبدأ على حافة الرّعب حينما يفكّر العقل فى المبدأ والمنتهى والغاية، فيخرّ ساجدا وهو يرتجف .. سبحانك .. سبحانك .. مغفرتك .. رضوانك، وذلك هو ما تحملنا إليه هذه التأملات لإقراراها من جديد، فإن الذّكرى تنفع المؤمنين.

0/Post a Comment/Comments