واجب الكنس لتعليم الأمس



         لعلّه يحقّ لنا أن نشخّص بدايات انهيار المنظومة التربوية بالبلاد التونسية إبّان الحكم البائد انطلاقا من السياسة التي انتهجها السيد محمّد الشرفي في بداية التسعينات تحت شعار إصلاح التعليم. ومهما كانت غايات الرّجل الإصلاحية من حيث تعميم أصحاب الشهائد في كامل ربوع البلاد، أو التغيير الجذري في البرامج التعليمية باسم عقلنة التعليم، أو تقوية جسور التفاوض بين وزارة الإشراف ونقابة التعليم الثانوي، فإنّ لمنشور جويلية 1991 المتعلّق بالنظام التأديبي الكلمة الفصل في تذويب الدور التربوي للمدرّس من خلال سحب الصّلاحيات من المربّي وإعطائها للطرف الإداري تحت شعار التقنين والتنظيم وباسم علوية القانون.فقد قُبرت التجربة قبل أن تكتمل، ومُنيت محاولة التّدارك التي سعى إليها الوزير اللاحق السيد أحمد فريعة تحت شعار إصلاح الإصلاح بالفشل ولم يُكتب لها الدّوام أكثر من صائفة ( من جوان 1994 إلى سبتمبر من نفس السنة ) . ثمّ تتالت الوزارات، و تتابع معها الترقيع في مجال التعليم تحت مسمّيات عديدة كالتدريس بالكفايات، والبيداغوجيا الفاريقية، وصولا إلى مشروع مدرسة الغد بكلّ فصوله المسرحية . وفي النهاية أصبحنا في مؤسّسات تربوية بلا تربية، و وجدنا أنفسنا في محيط معرفيّ بلا معرفة، واكتشفنا ونحن نروم المنهج العلميّ في اختصاصاتنا أنّنا أبعد ما نكون عن العلم بمنطقه وتجاربه . كلّ ذلك من أجل سياسات مرتجلة تفتقد لوضوح في الرؤية و تفتقر للوازع الوطني، و عكست ارتباكا في التصوّر والتخطيط . ولنا في 25 % في البكالوريا، و المسلك الرياضي، ومناظرة التاسعة أساسي، وغيرها من المناظرات خير شاهد على هذه القرارات الفوقية غير الوظائفية.
و قد لعبت المركزية النقابية دورا أساسيا في الإجهاز على التربية والتعليم في بلادنا بدعوى أنّها في الواجهة، و أنّها وحدها " في فُم المدفع " . صحيح أنّ الهياكل النقابية الدنيا و معها بعض القاعديين عبّروا عن رفضهم لهذه السياسات، وامتعضوا منها، إلاّ أنّهم وغيرهم من الهياكل لم يعملوا على مقاومتها، ولم يتصدّوا لها، بل لم يحاولوا حتّى مجرّد الاحتجاج على تمريرها، واتخذت نضالاتهم شكلا استعراضيا في مناسبات محدودة ومعلومة وبمطالب مشتّتة وهامشية . والأدهى والأمرّ أنّ المركزية النقابية سعت في عديد المناسبات إلى ضرب تحرّك الأساتذة قصد إفشال إضرابهم من خلال تعليق بلاغات ممضاة من الأمين العام للإتحاد يؤكّد فيها عدم شرعية الإضراب ومن ثمّة عدم قانونيته داعيا إلى تعليقه كما هو الشأن في إضراب ماي 2003 . و عليه أصبح من الواجب على هذه الهياكل أن تحاسب على مواقفها وتحمّل مسؤوليتها في جرّ البلاد إلى الفوضى التعليمية والتلاشي التربوي .
ليس من السهل أن نُصلح ما أفسده المبطلون، و لا من اليسير أن نتدارك ما أورثنا إياه الأفّاقون، ومع ذلك تقتضي منّا المسؤولية أن نُجمّع القوى لإعادة هيكلة التعليم من جديد وعلى أسس تربوية في إطار نظرة شاملة تأخذ بعين الاعتبار طبيعة المجتمع ومرجعياته المدنية الحداثية والعربية الإسلامية . فصار لزاما على كل القوى الحيّة في البلاد من أحزاب ومجتمع مدني و رجال تعليم بمختلف اختصاصاتهم ومستوياتهم أن ينكبّوا بكلّ جدّية ومسؤولية على وضع صيغة توافقية للتربية والتعليم تُراعى فيها خصوصية العلاقة بين المعلّم والمتعلّم بما يعيد تلك الهالة الاعتبارية القيمية التي افتقدناها في السنوات الخوالي نتاجا لاستفحال الطبقية وطغيان رأس المال ممّا أسقطنا كمربين في نظرة دونية بعيدة عن المثل العليا والقيم الأخلاقية .
إنّ المدخل إلى إصلاح التعليم ليس فقط في تغيير البرامج أو إعادة النظر في الزمن المدرسي أو مراجعة الوضعية الإدارية والمالية للمدرسين ولو أنّها من الأهمية بمكان لهم . لأنّ الأصل في مراجعة التربية والتعليم يكمن في إعادة النظر بكلّ جدّية ومسؤولية في النظام التأديبي الذي يحكم العلاقة بين المدرّس والتلميذ وينعكس سلبا أو إيجابا على علاقتهما بالوليّ والإدارة . هذا هو المدخل السليم للإصلاح الذي يجب أن نرفع فيه شعار القول المأثور لزياد بن أبيه في خطبته المشهورة: " إنّ آخر هذا الأمر لن يصلح إلاّ بما صلح به أوّله: لين في غير ضعف وشدّة في غير عنف " . فلا مناص والحال على ما ذكرنا من كنس رواسب الماضي من أجل بناء تعليم تربويّ وطنيّ وديمقراطيّ .
--------------------
بقلم: فتحي الفقيه سعيد

0/Post a Comment/Comments