تجربتي مع الموت


تجربتي مع الموت


   في أحد أيام فصل الشّتاء الباردة بينما كنت وحيدا في المنزل، ولجت غرفة النّوم، و استلقيت على ظهري في الفراش آملا أن آخذ قسطا من الرّاحة بعد أن أنهكت قواي مشاغل الحياة المضنية.
فجأة وجدت نفسي أتخيّل أنّي أحتضر على فراش الموت و أتقمّص تماما المشاعر الرّهيبة المرتبطة بالاحتضار و قرب المنيّة، فناديت كلّ شخص يهمّني في الحياة بدءا بأفراد عائلتي فجيراني ثمّ أصدقائي، و كنت أتخيّل مجيء كلّ فرد منهم على حدة وهو يؤدّي لي زيارته الأخيرة و علامات الأسى و الحزن بادية على ملامحه.
كنت في البداية أتكلّم مع كلّ شخص بصوت عال متظاهرا له برباطة الجأش و الرّضا بالقضاء و القدر إذ أنّ الموت حقّ لا مناص منه، لكن خلال حديثي شعرت بنبرات صوتي بدأت تتغيّر رويدا رويدا، و بدأت أفقد القدرة على النّطق و الإفصاح عمّا ينتابني من مشاعر و التّعبير عمّا يختلج في ذهني من خواطر، فتسارعت دقّات قلبي و بدأت أنفاسي تتصاعد بوتيرة غير منتظمة، و لم يكن بوسعي أن أتفادى البكاء، فترقرقـت مقلتـــــــي بالدّمــــوع، و استشعرت إحساسا مريرا بالفقدان، و شرعت أناجي الله عزّ و جلّ متضرّعا له راجيا منه الرّحمة و الغفران على ما اقترفته من ذنوب و معاصي، و لساني يلهج بالشّهادين.
لم أكن حينها أبكي حياتي بقدر بكائي على الحبّ الذي سأفتقده بالوفاة، و بالأحرى ما كان بكائي سوى تعبيرا عن حبّ كامن في أعماق نفسي لم أبح به من قبل بشكل ضاف.
أدركت من خلال تجربة الموت الافتراضي حجم ما افتقدته من حياتي، وعرفت أيضا كم المشاعر الدفينة الرّائعة التي أدّخرها لأطفالي على سبيل المثال، كما تأجّج في داخلي حبّ دفين لكلّ ركن من أركان بيتي الذي ولدت و ترعرعت فيه، و كلّ شبر من تراب مدينتــي الهادئة، مدينة المهدية المنغمسة في البحر كالزند و جنح بي الخيال إلى أن رأيت نفسي أترجلّ على شواطئها الفيروزية، و أعبر باب زويلة أو يطلق عليها العامّة السّقيفة الكحلاء في اتجاه المقبرة البحريّة، حيث يتجاور الأحياء و الأموات سويّا في أمن و سلام، مارّا بأزقّة برج الرأس العتيقة الملتوية. و شواطئها و أزقّتها الملتوية العتيقة و آثارها المعمارية التّاريخية الموغلة في القدم.
ازداد إيماني يومها أنّ الحبّ قصّة جميلة ألّفها الموت، و أنّ العدم كامن في الوجود ذاته.
الموت بالنّسبة لكلّ منّا يكتنفه الغموض، و يبعث على الاندهاش و القلق و الذّعر، و لكنّه بالنّسبة للكون ضرورة و فضيلة و خير.
الموت و الحياة توأمان متلازمان بانتفاء أحدهما ينتفي الثاني.
يبدو الموت مكمّلا للحياة، وهو شبيه بالبستاني الذي يقتلع النّباتات الفاسدة و يسوّي الأرض و يحرثها ليفسح المجال للبذور الصّغيرة الرّقيقة لتطرح ثمارها.
الموت في حقيقته حياة، وهو يحدث في داخلنا في كلّ لحظة حتّى و نحن أحياء، فملايين الكرات الحمراء و البيضاء تولد و تعيش و تموت في دمنا ، و ملايين الخلايا تدفن في الغدد أو تطرد في الإفرازات في هدوء و صمت دون أن ندري عنها شيئا.
أين تكمن المفاجأة إذا كان كلّ منّا يشبه نعشا يدبّ على ساقيه، و كلّ منّا يحمل جثّته على كتفيه في كلّ لحظة؟
لماذا يسقط الموت من حسابنا دائما حتّى حين نواجهه، مع أنّه هو ليس سوى جسرا للحياة؟
أليس ذلك كلّه مردّه أنانيّة الإنسان المفرطة؟
غيّرت هذه التّجربة برمّتها أسلوب تعاملي مع النّاس، فمنذ ذلك اليوم تحوّلت إلى كتلة من العواطف و الأحاسيس الفيّاضة، و تحرّرت بعض الشّيء من مشاعر القلق و الذّعر و الخوف من هذا المصير المحتوم.
أصبحت لديّ من يومها رغبة في أن أعيش يومي كما لو كنت سأموت غدا، و عاهدت نفسي أن لا أدع شيئا للصّدفة مستقبلا.

0/Post a Comment/Comments