صنم المعلومات


صنم المعلومات
لقد قيل قديما: " عقل مصقول خير من عقل مشحون ". تقف هذه القولة في معناها العميق ضدّ من يعطي الأولوية المطلقة في التّربية للمعلومات. غنّها لقولة ثمينة أثبتت الأيّام صحّتها و لم يعد يخفى على أحد دورها العلاجي الناجع في ما ينتاب المدرسة في العالم من تصدّع الأركان و انفصام الشّخصيّة
تتمسّك المدرسة في واقعها بالمعلومات و كثيرا ما تجعل منها غرضا في ذاتها تقدّمها إلى التّلميذ و تراقب اكتسابه لها.
و ليس من العسير أن نبرهن على ذلك: فعناويــن الدّروس المدرجـة فــي برنامـج التّاريـخ و الجغرافيا و المعلومات العلمية و الحرص على إعداد توازيع شهرية و سنويـة في ذلــك و تسجيل التّلاخيص في كراسات ثمّ استظهارها و إدراج " مواد الحافظة " ضمن الامتحانات التي تُنجز خلال السّنة الدّراسيّة إلخ... كلّ هذا شاهد عيان على ذلك.
بنمّ هذا المظهر في الحقيقة عن عقليّة قديمة موروثة لا نجد ما يبرّر استمرارها إثر التّطوّرات الحديثة: تتمثّل هذه العقليّة القديمة في أنّ دور المدرسة ينحصر أساسا في تزويد المتعلّم بحجم من المعلومات الضّروريّة لحياته العمليّة عندما يصبح راشدا. و هذا الموقف الموروث يمكن الطّعن فيه على الأقلّ من ناحيتين:
أ – النّاحية النّفسيّة:
كان المربّي في القديم يعتقد – جهلا بقواعــد علــم النّفــس – أنّ الطّفل رجــل مصغّــر، و الإدراك بالنّسبة إليه عمليّة طبيعيّة و سهلة. لذا كان الرّاشد المسؤول هو المرجع الوحيد في ضبط المعلومات دون اعتبار لحقائق نفسيّة الطّفل. و قد أكّدت أبحاث ( أجريت على ألف تلميذ لمعرفة مقدار تصوّرهم لمفهوم كروية الأرض و سطحها، وهو مفهوم مدرج ضمن برنامج التّعليم الابتدائي ) أنّ هذا المفهوم غريب عن تصوّرات أطفال الابتدائي. هكذا تفرض المدرسة على الأطفال دراسة مفاهيم يعجزون عن إدراكها.
ب – ناحيّة اجتماعيّة:
اتّسمت المجتمعات القديمة بالاستقرار الحضاري، فالتّقدّم الذي كان يحصل في مجتمع ما كان تقدّما بطيئا يكاد لا يلمس. فإلى عهد قريب كان الطّفل كثيرا ما يتعلّم مهنة أبيه الذي ينقلها إليه بالوراثة. لذا اتّجهت المدرسة إلى تخريج أنماط من البشر شبيهة بأنماط الحاضر الذي تنغمس فيه، فالمعلومات التي كانت صالحة بالأمس تبقى صالحة في معظمهـا الــيوم و غدا. لكنّ المجتمعات الحاليّة، بفضل الاكتشافات العديدة و المتنوّعة و المتتالية تغيّرت جوهريا و لم تعد تتحرّك حسب السّياق القديم. فما كنت تعرفه بالأمس أصبح لا معنى له بالنّسبة إلى ما يجب أن تعرفه اليوم، و خطّ السّير هذا ينبئ بغد أشمل معرفة و أعمق، فهل بقي اليوم معنى لمبدإ التّمسّك بالمعلومات أساسا بعد أن أصبحت تتّسم بحركيّة غريبة؟
انقضى العهد الذي كانت المدرسة تعتبر في المستودع الوحيد للمعرفة و أصبح الطّفل يتلقّى المعلومات من مصادر عديدة منها الجرائد و المجلات و السينما و الرّاديو و التّلفزة و الأنترنات... إلخ.
هكذا يصبح لزاما على المدرسة أن تغيّر وظيفتها تبعا لتغيّر الظّروف من حولها و إلّا فالتّصدّع و الانفصام ينقلبان حتما إلى سقوط الهرم بأكمله
أمّا الوظيفة الجديدة التي تقدر على ترميم البناء و توفير المناعة له نراها تتمثّل في طرق مسالك تربوية تفضي إلى تسليح الطّفل بقدرة مستمرّة على التّكيّف أمام مشاكل الحياة مهما تشعّبت و تجدّدت، و يكون ذلك بإيقاظ فكره على الدّنيا و السّيطرة على ما يرشق به من معلومات في كلّ حين. و هكذا توضع المعلومات في إطارها الحقيقي، فهي وسيلة تساعد على التّكوين العقلي.
قد يعتقد البعض أنّ هذا التّنبيه هو عصارة التّربية في العهد الحديث و الواقع أنّه ترديــد و تركيز لما نفذت إيه بصائر بعض فحول البشرية و أفذاذها عبر التّاريخ.
قال الجاحظ متحدّثا عن لسان علي بن أبي طالبك " و كرهت الحكماء الرؤساء أصحاب الاستبطان، و التّفكير جودة الحفظ لمكان الاتّكال عليه و إغفال العقل من التّمييز حتّى قالوا الحفظ عذق الذّهن و لأنّ مستعمل الحفظ لا يكون إلا مقلّدا و الاستنباط هو الذي يفضي بصاحبه إلى برد اليقين و عزّ الثّقة و القضيّة الصّحيحة".
ليست عمليّة التّكوين العقلي بالمر الهيّن في الواقع، فالعراقيل عديدة، منها ما يتعلّق بالإطار المادّي الذي يتجاوز حدود قدرتنا، و منها ما يتعلّق بذواتنا إذ رُبّينا على غير ما يُطلب منّا، لكن ما العمل و سنّة التّطوّر تفرض علينا التّحرّك في الاتّجاه الذي ذكرنا؟
أسمح لنفسي بأن أقول متفائلا: و ما المر على أولي العزم بعسير.

0/Post a Comment/Comments