فرويد و التّحليل النّفسي


من هو فرويد؟ هو طبيب و فيلسوف نمساوي ( 1856 – 1939 ). يعتبر مؤسّس علم النّفس التّحليلي. كان قد شعر بمضايقات مؤلمة جرّته إلى مراجعة المشاكل النّفسيّة حسب طريقة جديدة. من أبرز أساتذته الفيزيولوجي النّمساوي برويار Breuer الذي عمل معه بفيانا، و الطّبيب الفرنسي المختصّ في الأمراض العصبية شاركو Charcot الذي عمل معه بصلباتريار بباريس، و كذلك الأستاذ الفرنسي بارنهايم Bernheim الذي عمل معه بمدينة نانســـي ( فرنسا ). طريقة فرويد: كان برويار و فرويد قد عالجا فتاة تبلغ من العمر 21 سنة و كانت مصابة بالاضطرابات الهستيرية التي تبرز أعراضا متنوّعة كتقلّص العضلات و ضعف الحساسية و الخلل في الكلام و عدم الرّغبة في الأكل و الشّرب... كانت المريضة قد كشفت لهما خلال التّنويم عن حقائق هامّة: أصابتها الاضطرابات أثناء رعايتها لأبيها المريض، ذكرت حادثة مفادها أنّها رغبت مرّة في البكاء لكنّها منعت نفسها منه لكي لا تؤثّر في أبيها، كما وصفت خلال التّنويم كذلك مشهدا مفاده أنّ كلبا لشخص تكرهه شرب أمامها في كأس ممّا أثار في نفسها تقزّزا و غيظا دون أن تعبّر عنهما في الإبان... بعد أن أفاقت المريضة شعرت أنّها تخلّصت من عدّة اضطرابات: لم تعد تشعر بألم بعينيها و عادت إليها الرّغبة في شرب الماء... و بناء على هذا كان فرويد قد عالج مرضاه لمدّة طويلة عن طريق التّنويم و الإيحاء، لكن سرعان ما تبيّن له خلال تجاربه العديدة انّ عمليّة التّذكّر بالنّسبة للمريض صعبة التّحقيق إلى حدّ كبير. و هذا المر يستوجب من الطّبيب جهدا كبيرا حتّى يتغلّب على الاستعصاء الذي يبديه المفحوص أثناء العلاج. و بهذا انتهى فرويد إلى تحديد مشكل بكلّ وضوح: ما هي القوى التي تمنع المريض من التّعبير؟ و انطلاقا من هذا المشكل حلّل فرويد نظرياته التي عرفت شهرة عالمية كبيرة. كان قد وضّح أفكاره سنة 1909 في عدد من المحاضرات مستعينا في ذلك بتشبيه طريف، كان يقول: لنفترض أنّ شخصا ما يوجد معنا في هذه القاعة و يمنعني بضحكه و تشويشه من متابعة محاضرتي، يجوز ان يتصدّى له مستمعون أشدّاء فيخرجونه من القاعة ثمّ يحرسون المدخل لمنعه من التّسرّب إلى الدّاخل. هذا الشّخص المطرود يستمرّ وجوده خارج القاعــة و يواصل صراخه و ضربه على الباب بكيفيّة نكون بها أشدّ اضطرابا ممّا لو كان معنا في الدّاخل، عندئذ يمكن لمدير الجامعة أن يلعب دور الحكم: يلتقي بالمشوّش و قد يسمح له بالدّخول مقابل كفّه عن إقلاق المستمعين. يرمز فرويد بعناصر هذا الفرض الموصوف إلى حقائق نفسيّة و طريقة عمل: - داخل القاعة و من فيها يمثّل مجال العقل الواعي. - الشّخص المشوّش يمثّل رغبات الإنسان و ميولاته. - خارج القاعة يمثّل مجال اللاشعور - الحرّاس يمثّلون رقابة المحيط التّربوي. - تدخّل مدير الجامعة يمثّل دور المحلّل النّفسي. معنى هذا أنّه تنشأ فينا أفكار و رغبات نرفض تحقيقها لأسباب أخلاقيّة، فينتج عن هذا تصادم بين قوّتين متعاكستين ينتهي بقمع تلك الأفكار و الرّغبات أي بطردها من مجال الوعي لتكمن في اللاشعور. تواصل الحياة اللاواعية إقلاقها للفرد بصفة متنكّرة حتّى تبرز عليه اضطرابات متنوّعة، لذا يتمثّل علاج المريض في حرص الطّبيب على الغوص داخل الذّات و جعل المريض يتذكّر بوضوح الأحداث الكامنة و المتسبّبة في الاضطرابات. عندها يشعر المفحوص بالرّاحة فيستعيد توازنا نفسيا و مزيدا من القدرة على التّلاؤم الاجتماعي. و لمزيد التّدقيق نشير إلى انّ التّحليل النّفسي يقوم حسب منهج فروييد على جملة من التّقنيات منها انّ المحلّل مطالب – خلال فترة الفحص – بالتّفطّن إلى نوع معيّن من الكلمات الدّالّة التي ينطق بها المفحوص لأنّها متّصلة بالتّجارب الانفعاليّة الماضية. عندما ينطق المريض بكلمة هامة يدعوه الطّبيب إلى سرد كلّ ما توحي به إليه فتنشط المشاغل اللاشعوريّة و تتسرّب إلى مجال العقل الواعي. يقترح فرويد كذلك تحليل كلّ مظاهر النّشاط اللائرادي كالزلات الكلامية و الحركات غير الصّائبة و نسيان المواعيد... لا يمكن أن يعتبر هذا عرضيا لأنّه مشحون بمعان يساعد تفسيرها على فهم العالم الدّفين -. يضاف إلى هذا التّقنيات تحليل الأحلام التي عرفت مع فرويد طورا جديدا: فبعد أن فُسّرت ميتافيزيقيا ثمّ فيزيولوجيا أصبحت تفسّر تفسيرا سيكولوجيا. الرّغبات غير المشبعة أثناء اليقظة بسبب رقابة العقل الواعي تبرز أثناء النّوم لتحقيق مرادها " لأنّ الرّقيب يغطّ في نوم عميق ". و خلاصة القول في هذه التّقنيات أنّها – خسب رأي فرويد – تقود المحلل النفسي إلى التّجارب الانفعاليّة المتّصلة أساسا بالحياة الجنسيّة في عهد الطّفولة – فالمجال الجنسي هو المسؤول حينئذ عن جلّ الاضطرابات الظّاهرة في طور الرّشد. التّحليل النّفسي مع غير فرويد: حسبنا في هذه الفقرة أن نتعرّض بإيجاز إلى نظريات عالمين اثنين يُعدّان من أشهر المحلّلين النّفسانيين و هما أدلير Adler و جونغ Jung . يعتبر الاثنان من أتباع فرويد لكنّهما اختلفا عنه في تفسير الظّواهر. أ – أدلير: يرى أدلير أنّ سرّ الاضطراب يكمن أساسا في شعور الذّات بالنّقص البدني – فمظاهر السّلوك المختلفة البادية في حياة المصاب معناها تقنيع للنّقص و تعويض له. ب – جونغ: يرى جونغ أنّ كلا من فرويد و أدلير مصيب لأنّ نظريتهما تتعلّق بصنفين متميّزين من البشر: صنــف المنبسطيــــن أي المتفتّحيـــن علــى الخـــارج Extraveri و السّاعين إلى التّلاؤم مع وضعيات الواقعيّة. مفهوم المعنى الخفيّ: التّحليل النّفسي الفرويدي جلب للسّيكولوجيا فكرة أساسية مفادها أنّ أعراض الاضطرابات ترمز إلى معان خفيّة متّصلة بحقيقة الواقع اللاشعوري. نذكر على سبيل المثال تجربة عاشها المحلّل النّفساني الأمريكي فرنك Franck مع مريضته: حكت المعنيّة بالمر أنّها اشترت في المنام قبّعة سوداء رائعة و ثمينة جدّا. أبان التّحليل أنّ المريضة لها زوج مسنّ أقعده المرض، و أنّها أحبّت رجلا غنيا و جميلا. هكذا يتبيّن انّ الرّغبات الدّفينة ترجمت عن وجودها في الحلم بعناصر رمزيّة: القبّعة الرّائعة تشير إلى الرّغبة في التّأنّق لإغراء المعشوق، الثّمن المرتفع يشير إلى الرّغبة في الثّراء، أمّا سواد القبّعة فهو إشارة خفيّة إلى حالة حداد تعيشها المريضة الرّاغبة في التّخلّص من هذا الزّوج المقلق. لذا يكون المحلّل النّفساني مدعوّا إلى تفسير ما قد يُعتبر من باب السّخف و العبث في أعراض المريض لأنّها رموز مشحونة بالمعاني و لها قصديّة خفيّة معيّنة. دور الطّفولة في تكوين الشّخصيّة: كان أحد الشّعراء الانجليز قد قال: " الطذفل هو أب الرّجل " مشيرا بهذا إلى أهمّية أحداث الطّفولة في حياة الانسان الكهل. هذه حقيقة أكّدها علم التّحليل النّفسي بالحجج القاطعة: لا يتأتّى فهم سلوك الرّاشد إلا باكتشاف أحداث الطّفولة و علاقات النّاشئ بأفراد أسرته " أنا في الوقت الحاضر هو ما صنعه في الماضي " أهمّية الحياة الجنسيّة: تأكّد لدى فرويد من خلال التّجارب التـــي عاشهــا أنّ النّمـــو الجنســـي يبدأ منذ المهـــد ( بتصوّرات فرويد ) و صنّف المنطوين Introverti الذين يغلب عليهم التّأمّل متجنّبين مجابهة الأشياء ( تتّصل حال هؤلاء بتصوّرات أدلير ). التّحليل النّفسي أثرى السيكولوجيا: دور التّصادم: كشف التّحليل النّفسي عن أهميّة الدّور الّذي يلعبه " التّصادم " في الحياة النّفسية – يكون التّصادم بتقابل قوّتين " مصدر الأولى رغبات الفرد و مشاغله و مصدر الثّانية مقتضيات الحياة الاجتماعية و الأخلاقيّة. و تبسيطا لهذا المجال المتشعّب يتصوّر فرويد الحياة النّفسيّة كمسكن مكوّن من ثلاثة طوابق. يمثّل الطّابق الأوسط الأنا الواعي و ملتقى الضّغوط المتعاكسة، و يمثّل الطّابق الأسفل مصدر الدّوافع الغريزيّة السّاعية إلــى الشّبــع و الارتواء في مستوى العقل الواعي، أمّا الطّابق الأعلى فهو يمثّل مصدر ضغوط الرّقابة الأخلاقية السّاعية إلى قمع الغرائز وهو المستوى الذي يسمّيه فرويد يفوق الأنا ( فوق الأنا = مجموع النواهي الأخلاقية ). و من الجدير بالملاحظة هنا أنّ " فوق الأنا " تتّصل جذوره بأصول غريزيّة كذلك الرّغبة في محبّة الغير و حمايته له. لذا نرى الطّفل يتجنّب عمدا بعض المرضيات الغريزيّة النّابعة من ذاته ليفوز بارتياح أسرته له. لكن مع الأشخاص المصابين بالاضطرابات النّفسانيّة يكون " فوق الأنا " أشدّ قسوة. لذا لا يكتفي بعدم الاستجابة إلى الرّغبات، بل بقمعها أي طردها تماما من مجال العقل الواعي، فتنتج عن هذا أعراض مرضيّة وهي آثار انتقام الغرائز المكبوتة. و لا تعني كلمة عقدة غير هذه الرّغبات الدّفينة التي تفسد على الشّخص توازنه. و يمرّ بمراحل حتّى يصل بالفرد إلى طور النّضج التّناسلي الطّبيعي. و تتّصل الحياة الجنسية في معناها العام و من مظاهرها التّلذّذ الفمّي و التّلذّد الشّرجي، و ما يُعرف بعقدة أوديب يعتبر مرحلة من مراحل النّموّ الجنسي حيث يتعلّق الولد شهوانيّا بأمّه و يكره أبــاه و كذلك البنت في الاتّجاه المعاكس، و على الطّفل ذكرا كان أم أنثى أن يكبت هذه الكراهية في اللاشعور و يتظاهر بالحبّ. و خلاصة القول في الحياة الجنسيّة بالنّسبة لفرويد أنّها المصدر الأساسي المسؤول عن جلّ الاضطرابات النّفسانية.

0/Post a Comment/Comments