التّعليم المبرمج

التّعليم المبرمج
ما هو التّعليم المبرمج؟ يقول منجد اللغة البيداغوجيّة: " التّعليم المبرمج هو تعليم معطى بواسطة آلة حسب البرنامج المهيّأ من طرف المبرمج " - لكن هذا التّعريف المقتضب يحتاج إلى شيء من التّحليل. لذلك نضيف ما يقوله مختصّ في هذا المجال وهو الأستاذ Maurice De Montmollin : " نعرّف التّعليم المبرمج بأنّ طريقة بيداغوجيّة تسمح بتبليغ معلومات بدون واسطة مباشرة لمعلّم، و ذلك باحترام الخاصّيات الفرديّة لكلّ تلميذ " – و هكذا نستفيد من قولة هذا الأستاذ بمعنيين هامّين على الأقلّ أوّلهما أنّ التّعليم المبرمج هو أساسا طريقة عمل، و ثانيهما أنّ تجنّب ذكر لفظ " آلة " مقصود، و الغاية منه رفع التباس حاصل في أذهان العديد من المربّين الّين يقرنون هذا النّوع من التّعليم بآلة ميكانيكيّة أو كهربائيّة أو الكترونيّة. و الحقيقة أنّ عبارة " آلة " الواردة في التّعريف الوّل تعني " أداة " وهي كلمة ذات مدلول أشمل ينضوي تحت لباسها الكتاب المطبوع المعتمد كذلك في هذه الطّريقة. و هذا ما جعل بعضهم يفضّل استعمال عبارة " جهاز تعليم ذاتي " عوضا عن " آلة ". متى نشأ التّعليم المبرمج؟ لا شكّ أنّ التّعليم المبرمج لم ينشأ بصفة عمليّة إلا خلال هذا القرن. لكن نرى بعض المؤرّخين للتّربية يحشرون الحديث عن هذه الطّريقة الجديدة ضمن إطار المدرسة التّقليديّة. هل من تناقض؟ تكمن الصّلة بين الطّرفين في التقاء بعض مبادئ التّعليم المبرمج مع ما اعتادت المدرسة التّقليديّة أن تحرص عليه. من هذه المبادئ: 1- تقسيم محتوى المادّة إلى وحدات أوّلية و ضبط برنامج محكم يضمن تسلسل هذه الوحدات. 2- مراقبة رسوخ المعلومات حلقة حلقة. و تبعا لهذا لا غرابة في اعتبار سقراط و أفلاطون – لما انشغلا به من مبادئ الإجابة النّشيطة و المراحل الصّغيرة و الإصلاح الحيني – من أوائل مؤسّسي التّعليم المبرمج. لكن ظهور هذه الطّريقة في شكلها العملي التّجريبي المنظّم لم يحصل إلا خلال العقد الخامس من هذا القرن. و يُعزى إلى العالم النّفساني الكبير سكينار " Skinner " ولادة التّعليم المبرمج. من المعلوم أنّ هذا البسيكولوجي الأمريكي قد اختصّ في دراسة السّلوك و كيفيّة التّعلّم بالنّسبة للحيوان و الإنسان. قاده أمر انشغاله بهذه المجالات إلى طرق مشاكل التّعليم فوضع بمساعدة معاونيه طريقة في البرمجة ( الطّريقة الخطّية ) تعتبر حتّى اليوم من اشهر الطّرق المستعملة في التّعليم المبرمج. و كان أوّل موضوع هام نشر له في هذا الاتّجـاه سنـة 1954 بعنـوان " علم التّعلمّ و فنّ التّعليم ". سرعان ما انتشر هذا الإنتاج الأمريكاني انتشارا واسعا داخل الولايات المتّحدة نفسها و خارجها كبريطانيا و ألمانيا و الاتّحاد السّوفيتي سابقا و غيرها. من أهمّ مبادئ التّعليم المبرمج: أ- مبدأ هيكلة المادّة: ينبغي أن تقسّم مادة التّعليم إلى عناصره الأوّليّة مع مراعاة ضبط الصّلة بين العنصر و العنصر بكيفيّة ييسّر ترتيبها الفهم و الامتلاك بالنّسبة للتّلميذ. ب- مبدأ الملاءمة: ينبغي أن يتلاءم التّعليم مع التّلميذ من كلّ الجوانب: مستواه و قدراته العقلية و سرعته الخاصّة في التّعليم. ج- مبدأ الإثارة : يقتضي هذا التّعليم أن يثار في التّلميذ باستمرار جملة من العوامل كالاهتمام و الرّغبة في العمل و الانتباه. ينبغي أن يجنّب الوقوع في شرود الذّهن و القلق و وهن العزيمة. لذا فهو يشارك في التّعلّم مشاركة نشيطة و عامل النّجاح المشجّع يجعل عمله لا يتوقّف. د- مبدأ المراقبة: يخضع تعلّم التّلميذ لمراقبة مستمرّة في كلّ مرحلة من مراحل التّدرّج. لذا تصلح كلّ أجوبته و تقوّم كلّ أخطائه. من محاسن التّعليم المبرمج: أ – توصّل التّعليم المبرمج كطريقة إلى تيسير العمل بالنّسبة لعامّة المربين و ذلك مهما اختلفت مواهبهم و تباينت قدراتهم البيداغوجيّة ممّا يضمن نجاعة الانتاج على نطاق واسع. ب – تحقّق هذه الطّريقة الفرديّة في التّعليم، وهي من أعزّ مطالب التّربية الحديثة التي تقابل بها التّعليم الجمعي حيث تتوجّه المدرسة التّقليديّة إلى تلميذ مجرّد لا ينطبق على أيّ عنصر من مجموعة الفصل. ج – إنّ المبدأ القاضي بضرورة الاسراع بإصلاح الإجابة في كلّ مرحلة يخلق لدى التّلميذ حافزا متولّدا عن الفهم الحاصل وهو ما تلحّ في الدّعوة إليه نظريات التّعلّم. د – توجد هذه الطّريقة ظروف عمل تفرض على التّلميذ النّشاط المستمرّ فهو مدعوّ بدون توقّف إلى افجابة عن أسئلة أو حلّ مشاكل. هـ - يقسّم البرنامج المعدّ للدّراسة بكيفية تيسّر على التّلميذ التّغلّب على كلّ الصّعوبات فيتولّد عن هذا شعور بالثّقة و عامل تشجيع يجعل نجاحا سابقا يقود إلى نجاح لاحق و في هذا أساس بناء المعرفة الثّرية كمّا و كيفا. و – مبدأ مراقبة عمليّة التّعلّم في كلّ حين يجنّب تكديس الأخطاء التي تكبّل التّلميذ و تحدّ من اندفاعه مثلما تثبته وضعيات التّعليم التّقليدي. التّعليم المبرمج و النّظريات البسيكولوجيّة: تُعتبر منهجيّة التّعليم المبرمج تطبيقا لنظريات بسيكولوجية معيّنة تنعت باســـم " النّظريات التّرابطيّة " التي ترى أن المعرفة ليست إلا مجموع أجزاء أو حلقات مترابطة. لذا ينبغي أن تقوم على مبدأي التّدرّج و تجميع المكتسبات الجزئيّة. يرى طورنديك Thorndike الذي يُعدّ من أكبر زعماء هذا التّصوّر ( وهو الذي أثّر بأفكاره على بسيكولوجيّة سكينار Skinner و بيداغوجيته )، أنّ التّعليم يقوم على قانونين أساسيين: 1- قانون التّمرّن لأنّ التّكرار يدعم التّرابط بين الحلقة و الحلقة. 2- قانون النّتيجة لأن الإجابة النّاجعة تدعم التّرابط بين الجزء و الجزء. هذا بإيجاز هو الإطار النّظري الذي يستمدّ منه التّعليم المبرمج مسلكه العملي. لمن هذه النّظريات التّرابطيّة و التّطبيقات البيداغوجيّة النّاتجة عنها لقيت معارضة شديدة من قبل ما يُعرف باسم النّظريات البسيكولوجية الشّاملة التي ترى أنّ الكلّ أثرى بكثير من مجموع الأجزاء. ففهم شخصيّم ما لا يحصل بدراسة صفاتها المنفصلة و إنّما بدراسة الشّخصية ككل منظّم. و في نطاق التّعلّم يتمّ الإدراك بنظرة شاملة على عناصر الوضعيات المعقّدة. أمّا التّطبيق البيداغوجي المتولّد عن هذا الإطار النّظري الحديث ما يُعرف باسم الطّريقة الشّاملة التي تتجاوز – خلافا لما يعتقد البعض – حدود القراءة الضّيّقة و التي في معناها العام الانطلاق في التّعليم من الواقع، من الحياة، من الخبرة الملموسة، من الظّواهر الطّبيعيّة و البشريّة ككل... هذه الأطر المختلفة تضمن إثارة انتباه الطّفل لأنّها مكوّنة من حقائق حيّة.

0/Post a Comment/Comments