مواطن رقيب تحت الرّقابة

مواطن رقيب تحت الرّقابة

وقفت سيّارة أجرة ونزل منها كهل في الأربعين من العمر قصير القامة عريض المنكبين، يلبس بدلة افرنجيّة داكنة اللون و تدلّى من رقبته رابطة عنق قصيرة تخالها لوحة فسيفسائيّة لما امتزجت بها من أشكال و ألوان متنافرة، رفع رأسه إلى أعلى و حدّق بعينيه الجاحظتين من خلف نظّارته المستديرة إلى لافتة كبيرة تعلو بناية ضخمـة كتـــب عليهـــا " التضامن الاجتماعي" و تحت اللافتة صورة عملاقة لامرأة مرتديّة زيا تقليديّا واقفة أمام منزل جديد و يبدو على ملامحها البشر و السّعادة، و ترافق الصورة عبارة كتبت بالبنط العريض "لا كرامة لمواطن بدون مسكن لائق".

يلج صاحبنا المبنى بخطى ثابتة و يتّجه فورا إلى شبّاك الاستقبال:

-صباح الخير.

-صباح الخير، تفضّل.

- بالله سيّدي هل لك أن تدلّني كيف أقدّم مطلبا للحصول على منحة.

-منحة ؟ منحة ماذا ؟

-المنحة القارّة المخصّصة للعائلات المعوزة.

يحدّق الموظّف في صاحبنا باستغراب و ينظر إليه من أعلى إلى أسفل، فيلمح علبة السّجائر المستوردة تتصدّر جيب قميصه، ثمّ يرنو إلى هاتفه الخلوي الرّفيع المشدود إلى حزامه داخل حافظة جلدية أنيقة، و بعد أن استفاق الموظّف من دهشته توجّه بالسؤال إلى صاحبنا هامسا:

- لمن تطلب المنحة يا سيّدي ؟

فيجيبه صاحبنا على الفور و بدون تردّد: " لي أنا ".

بعد فترة من الصّمت يخاطب الموظّف طالب الخدمة: " لا يبدو أنّك تستحقّ هذه المنحة لأن مظهرك يوحي بأنّك ميسور الحال".

يقاطعه المواطن: " كيف علمت أنّي لا أستحقّ هذه المنحة ؟ ألا يمكنك أن تعدّ لي بطاقة ارشادات و تمدّني بقائمة الوثائق اللازمة ثمّ عليك بعد ذلك أنّ توجّه لي مرشدا اجتماعيا ليتثبّت من حالتي الاجتماعيّة؟

ينتفض الموظّف من كرسيّه حانقا: " ما دمت عالما بالإجراءات و التّراتيب الإدارية الجاري بها العمل فلماذا تزعجني بأسئلتك التّافهة؟ ثمّ أحيطك علما أنّ بإمكاني أن أميّز بين من يستحقّ الإعانة الاجتماعيّة عمّن سواه.

يردّ عليه صاحبنا المواطن بكلّ برودة دم: " كيف حكمت بأني لا أستحقّ الإعانة مع أنّك لم تقم بواجبك الوظيفي تجاهي، أنجز ما يتحتّم القيام به من اجراءات، و اترك قرار إسداء المنحة أو رفضها لأصحاب القرار.

يهوي الموظّف على كرسيّه متهالكا، ثمّ يقول لصاحبنا مستهزئا:

- عفوا سيدي لا يمكننا تقديم إعانة اجتماعية لمن يدخّن سجائر رفيعة و يستعمل هاتفا خلويا من آخر طراز.

- و ما شأنك في بنوعية السجائر التي أدخّنها أو الهاتف الخلوي الذي استعمله؟ افترض أن هاتفي و علبة السجائر هدية من أحد أفراد العائلة المقيمين بالخارج.

- يتأفّف الموظّف: - من فضلك سيّدي يكفي من مضيعة الوقت، فأنت الآن بصدد تعطيلي عن العمل.

- أنا بصدد تعطيلك عن العمل ؟ أنت يا حضرة الموظّف متقاعس عن العمل و تصرّفك هذا يعتبر من قبيل الاخلال بالواجب الوظيفي ، و بإمكاني كمواطن محاسبتك عليه.

يصيح الموظّف: اعمل ما بدا لك، و ابذل ما في وسعك، فلن تستطيع ايذائي على الاطلاق.

- حسنا سنرى ذلك، أؤكّد لك أنّي سأجعل منك عبرة لأمثالك المستهينين بمصالح المواطنين عند ذلك لا ينفع النّدم.

يقهقه الموظّف عاليا ضاربا مكتبه بكفّه:

- مخطئ يا سيّدي لو تعتقد أنّي أجهل من تكون، أنت كنت منذ سنة موظّفا بإدارة التّجهيـــز، و الآن تجنّدت متطوعا لمراقبة أمثالك من الموظّفين البسطاء.

يلتفت صاحبنا يمينا و شمالا، فيرى الحاجب و مجموعة من المواطنين يتبادلون فيما بنهم إشارات السّخرية و الاستهزاء، فلم يجد صاحبنا من بدّ سوى مغادرة الإدارة على عجل مطأطئ الرّأس بعد ان افتضح أمره.

بعد نصف ساعة يحلّ صاحبنا بالوكالة العقاريّة للسّكنى المتخصّصة في تشييد المساكن الاجتماعية و الاقتصادية،و يقف أما م مكتب الإرشاد و يبادر الموظّف بالتّحيّة:

- صباح الخير.

الموظّف لم يتفطّن إلى صاحبنا و يواصل غناءه ( صالح يا صالح، يا قمح البلومي ....وين هو؟ صالح يا ولد أمي ...)

- ها أنا أمامك يا أخي، صباح الخير و البركة.

يرفع الموظّف رأسه إلى صاحبنا، مغّيرا الأغنية: (آه يا ماما ، آه يا حنة آه يا للّة خالك جاء عرّضيلو بالحملة ، آآآآه).

يرفع صاحبنا صوته: يا أخي ! يا سيّدي! يا حضرة الموظّف المحترم ! هل أنا في مؤسّسة عموميّة أمّ في قاعة أفراح.

- انشاء الله أيامنا دائما أفراح يا أخي في كلّ مكان و زمان، و الله يا أخي غفلت عن مكان وجودي، فأنت لا يفوتك علما أنّنا في فصل الصيف، فصل الأفراح و الليالي الملاح، و كلّ شيء فيه مباح، و ها أنّي أطارد النّعاس من عينيّ لأنّي لم أنم البارحة إلا سويعات معدودات من جرّاء السّهر في حفل عرس أحد الجيران.

- لكن حاول أن تتماسك، فلا تنس أنّك في مؤسّسة إداريّة عموميّة محترمة، و لست في علبة ليلية. - معذرة سيّدي، هل لي من خدمة أسديها لك ؟

- علمت من وسائل الأعلام المرئيّة و المسموعة و المكتوبة أنّ الوكالة بصدد انجاز حيّ سكني لمتوسّطي الحال مثلي، و أريد أن أسجّل اسمي بقائمة طالبي الحصول على مسكن بهذا الحيّ حتّى أنعم فيما تبقّى من عمري بالاستقرار وكرم العيش في مسكن خاص بي، لا يلاحقني فيه ملاك طالبا تسديد معلوم الكراء أو عدل منفّذ حاملا لي تنبيها بإخلاء المحلّ عاجلا.

- من حقّك اقتناء مسكن و حتّى مسكنين إن رغبت في ذلك و لم لا ؟

يتّجه الموظّف صوب خزانة حديديّة و يمدّ منها رزمة من المطبوعات و يرمي بها على مكتبه أمام صاحبنا الذي أصابته نوبة من العطاس من جراء الغبار المتناثر منها، ثمّ يشرع في إنشاد موال:

" يا بنادم ياللي ماش بالنيّة، ياللّي قلبك يحكم فيك، اسمع مني خوذ وصيّة ..." يتنحنح المواطن الرقيب: ماذا أفعل بهذه الكمّية من الأوراق ؟

- هذه المطبوعة تعمّرها هنا على عين المكان، و الثّانيّة استمارة تعمرها ثمّ تذيلها بإمضاء معرّف به بالبلدية و تعيدها مصحوبة بشهادة في خلاص الأداءات الجبائية على مداخيلك من القباضة المالية، ولا تنس شهادة في خلاص الأداء البلدي، كما عليك جلب بطاقة خلاص من المؤسّسة او الإدارة المشغلة لك، و شهادة من البنك تثبت عدم التزامك بتسديد قرض في الوقت الحالي، و هذا تصريح على الشّرف يستوجب إمضاءه من قبل العمدة لإثبات عدم تصنيفك ضمن الفئات الاجتماعية المبينة بالجدول الموجود بتلك الوثيقة.

يسلّم الموظّف كامل الأوراق دفعة واحدة إلى المواطن الرّقيب و يطالبه بتعمير الاستمارة الخاصّة بالإدارة حالا.

مسح المواطن الرّقيب نظّارته الطّبيّة و أخذ يقلّب الأوراق باحثا عن الاستمارة المعنيّة ثمّ سحب ورقة مغايرة، فافتكّ منه الموظّف بقيّة الأوراق مشيرا إلى الورقة المطلوبة، ثمّ أعادها إليه موصيا له بالتثبّت و التّحرّي مليا عند تعمير الأوراق و تحضير الملف.

قام المواطن الرّقيب بتعمير الاستمارة و سلّمها للموظّف مستفسرا عن موعد تسليم المسكن بعد إعداد الملفّ و تقديمه كاملا، فأشار إليه هذا الأخير بأنّ عليه أن ينتظر ريثما يصله استدعاء كتابي.

- كم تدوم فترة الانتظار هذه يا سيّدي ؟

- أنت و حظّك، قد تدوم شهرا أو شهرين أو سنة، وربّما تدوم خمس سنوات إذا لم يحالفك الحظ، و هذا شيء عاديّ جدّا.

- لكّني أعرف من تحصّل على مسكن في فترة وجيزة لا تتعدى بضعة أشهر من تقديم الملفّ.

يبتسم الموظّف ممطّطا يديه خلف رأسه قائلا:

- آه هذا صحيح، فهناك تراتيب و إجراءات أخرى خاصّة بمن يستعجلون الحصول على مرادهم و لا يطيقون الانتظار، وهي تختلف عمّا هو جاري به العمل بصفة روتينية.

- و ما هي هذه الاجراءات يا أخي، هل لك أن تدلّني عليها ؟

يطلق الموظّف قهقهة عالية ثمّ يهمس في أذن المواطن الرّقيب: بإمكانك أن تسجّل رقم هاتفي الجوّال و تطلبني مساء بعد العمل لنحدّد وقتا نحتسي فيه قهوة معا و نتدارس فيه هذا الموضوع.

يردّ المواطن الرّقيب مستشيطا غضبا: - أنت إذا تلمّح لي بأن أرتشيك حتّى تسهّل لي الحصول على طلبي في وقت قياسي، أنا أرفض التّعامل بهذا الأسلوب الخسيس الذي ينم عن غياب الضّمير المهني و فساد السّريرة، يا مرتشي يا عديم الأخلاق يا حرامي.

- يا أخي أنا عرضت عليك خدمتي و أنت حرّ في قبولها من عدمها، و لا فائدة من التّهجّـــم و التّجريح، إن رفضت التّعامل معي فهناك العديد ممن ينتظرون إشارتي لتلبية مطالبهم.

يشرع الموظّف في الغناء مصحوبا بالإيقاع على حافّة مكتبه " قتلــك و دليلك ملــك، قتلـــك و دليلك ملك..."

- و الله أمرك غريب، ألم تستح من التّبجّح بفسادك؟ يا لها من وقاحة و قلّة أدب.

- بالله بأيّ صفة أتيت لتحاسبني على سوء تصرّفي في العمل و انعدام الضّمير المهني ؟

أ أنت مدير؟ متفقّد إداري و مالي؟ مسؤول في الإدارة العامّة؟

- أنا أحاسبك بصفتي مواطن، مواطن شريف يدافع عن حقوقه و حقوق المواطنين، واعلم أنّ الواجب الوطني و المصلحة العامّة يقتضيان منّي أن أرفع بك شكوى إلى الجهات المسؤولة، و سوف لن أتوانى لحظة في فضح أساليبك الجهنّمية الدّنيئة التي تتوخّاها للتّمعّش من عرق الكادحين، و استهتارك بمصالح المواطنين حتّى يتّخذ في شأنك رؤساؤك القرار المناسب ليردعوك عن تصرّفك الأرعن.

- لمن ستشتكي و بمن ستشتكي أتظنّ أنّي أنا الوحيد المستفيد من هذه الصفقات ؟ أنا لست سوى طرفا من سلسلة طويلة متشابكة و متفرّعة يعسر تحديد منتهاها.

- حسنا، و تقرّ بذلك أيضا؟

يتّجه المواطن الرّقيب صوب الباب الخارجي ليهمّ بمغادرة الإدارة، فيصيح به الموظّف:

- يا سيّد تعال، أنا لست جادّا فيما أقوله، إنّما وددت ان أمازحك، أنا أعرفك جيّدا يا صديقـي، أ لست فلانا الذي كان يشتغل منذ سنة في إدارة التّجهيز ؟ أ لم تكن تستعمل السيارة الإداريّة في أغراضك الشّخصيّة بعد ملء خزّانها على حساب الإدارة ثمّ تعيدها و مؤشّر الوقود يشتعل مرفرفا ؟

يعود الموظّف ناشدا موالا: " اسمع مني خوذ وصية، الدنيا غابة فيها لفاعي و صيودة كثير، حليلي لوكان يتقابلو عليك).

يغادر المواطن الرّقيب الإدارة نادما على دخولها ، لاعنا حظّه التّعيس في مهمّته الجديدة لأنّه لم يقدر على رفع تقرير واحد إلى رؤسائه منذ شهر، لا لأنّ الأمور بالإدارات التي زارها على أحسن ما يرام بل لأنّ تاريخه المهني مسودّ و له تجاوزات في مهنته الأصليّة لا تحصى و لا تعدّ، و لم ينس ما اقترفت يداه من سرقات لمواد البناء التي خصّصت لتبليط الأنهج و الطّرقـات، و ما استهلكه من وقود خلال استعمال السيارة الإداريّة التي جال بها من سجنان إلى بني قردان مرورا بالجمّ و قصر هلال قصد التّسوّق و الاستجمام.

و بينما هو فـــي طريقــــه شارد الذهــن إذ مرّ بإدارته الأصلية فخطــر له أن يزور زملاءه و بمجرّد الوصول استقبله الزملاء أحسن استقبال و رحبوا به و أكرموا ضيافته سائلين عن ظروف عمله الجديد و عن الامتيازات الوظيفيّة التي يتمتّع بها، و أمر رئيس المصلحة الحاجب بأن يجلب له قهوة، و أحاط به زملاؤه من كلّ جانب يتجاذبون معه أطراف الحديث مستمتعين بالتدخين و رشف القهوة، و بعد قضاء ساعتين من الزمن غادر صاحبنا الإدارة مودعا زملاءه على أمل اللقاء بهم مرّة أخرى.

و لم يمض أسبوع على هذه الزيارة حتّى دخل الحاجب على رئيس المصلحة و سلّمه ورقة، فض هذا الأخير الورقة فإذا بها استجواب، السّبب: التّجمّع داخل مكتب واحــد مع إخلاء بقيّة المكاتب و التدخيــــن و احتساء القهوة أثناء العمل.

0/Post a Comment/Comments