إنّ الحياة دقائق و ثوان

ما تذكّرت يوما و لا لحظة " هذا الوقت " الّذي يمرّ بنا سريعا أو نمرّ به سراعا إلا و تذكّرت قول شوقي: دقّات القلب قائلة له ** إنّ الحياة دقائق و ثوانِ هذه السّاعة الغريبة التي تدقّ داخل جوانحنا كم من أناس يسمعون دقّاتها؟ هذه السّاعة التي ننام و لا تنام كم أعلنت لنا ثوانيها و نحن عن أعوامها غافلون ؟ و كم مرّة نبّهتنا هذه السّاعة إلى أنّ الحياة لا تقاس بالأعوام الكبيرة، و إنّما تقاس بالثّواني و الدّقائق الحقيرة، لأنّ من أهمل حساب حياته على حساب الثّواني، هان عليه حساب الأعوام و الآجال الطّويلة. ما رأيت ساعة يضحّى بها و يذهل النّاس عن دقّاتها كهذه السّاعة التي تدقّ في صدورنا. إنّها ساعة الوقت...الّذي هو ضحيّتنا قبل أن نكون ضحيّته، الّذي نسرف فيه و لا نحسب له حسابا، إنّما هو مادّة الحياة الّتي نحرص عليها...و متى أدركنا أنّ واحدا لا يستطيع أن يردّ من لحظاته الماضية لحظة واحدة مهما أجلب جنده و أنفق جهده، متى أدركنا دلك عرفنا أنّ هذه الدّقائق و الثّواني إنّما هي في الحقيقة أنفاسنا التي تتصاعد إلى غير عودة، و أيّامنا الّتي تمشي إلى غير رجعة. فكيف نكون حريصين على هذه الأنفاس الغالية، و الفترات التي نهوّن من شأنها ؟ إنّ مرض إضاعة الوقت يكاد يكون متفشّيا في كلّ زاوية من زوايا مجتمعنا، و ما عيك – إذا أردت أن تطمئنّ إلى حكمي – إلا أن تدير نظرة النّاقد فيما ندعوه " مظاهر صادقة لحياتنا ". فهل رأيت معي هذه الفئة الّتي تتزاحم على كراسيها المصفوفة في المقاهي، تغشاها صباحا و تعمرها مساء، كأنّها فئة من طلاب تدرس في صفوف المقاهي، و ما دراستها إلا أن تُكبّ بأذرعها و أيديها على طاولة الورق. هذا هو وجه فلان في المكان نفسه و الزّمان نفسه..كأنّما الحياة عنده قد استدارت في هذا المكان، و أصبح لا شغل له من حياته إلا الشّغل التّافه..أفلا قلتَ معي عند مرأى مثل هذه الفئة: " هل كانت الحياة جادّة يوم أوجدتهم ؟ " و كيف تجدّ في إيجاد قوم اتخذوا الحياة لهوا لهم، و أماتوا حسّ الواجب في أنفسهم، فهم لا ينفعون شيئا، بينما يضرّون أشياء. و كم من أركان المقاهي من ساعات عاطلة تحطّمت دواليب العمل فيها، و وقفت عقاربها عن السّير، و إذا سألتهم عن عملهم في هذا المقهى تعلّلوا بأنّه طلب للاستجمام بعد التّعب، و اللّهو بعد الجدّ...و لكن من يحصي عليهم ساعات عملهم و لهوهم يُدرك أنّ اللّهو أصبح عندهم الغرض المنشود، بينما أصبح الجدّ عملا ممقوتا يُفرض عليهم...و لو أتيح لهم أن يفرّوا منه لفرّوا... و ليت مرض الوقت وقف تفشّيه عند هذه الفئة، فقد انتقل إلى أولادنا و طلابنا، و ألّف خطرا اجتماعيا في حياتهم لا يوزيه خطر. فهذه الكتلة من العزم و الثّبات أخذت تبدأ حياتها باردة هامدة، و تستعدّ للحياة الاجتماعية استعداد المريض الّذي لا يثق في نفسه، لأنّ لحظات الفراغ تستهويها أكثر من لحظات العمل.. فهؤلاء الطّلاب الّذين تنتظرهم الامتحانات الّتي ستبتّ في مصيرهم، و تعيّن مستقبلهم، لا يكادون يبلون عليها بجدّ و اهتمام – أثناء أيّام الدّراسة – لأنّ خطرها في اعتفادهم لا يزال بعيدا...فنراهم يقطعون الوقت في الغفلة و التّغافل، و السّؤال و التساؤل، و في الملهى الفلاني و فلم فلانة، حتّى إذا جدّ الجد، و لم يبق بينهم و بين ما ينتظرهم إلا لحظات بخعوا أنفسهم و قهروا إلرادتهم، و تحفّزوا للوثوب و اندفعوا...و لو فطن هؤلاء لهذه السّاعة و استعدّوا لها منذ البداية، لما اضطروا إلى هذا التحفّز، و لما فرضوا على أنفسهم عزلة منزلية طيلة شهر و عرضها شهر لا يخرجون منها إلا إلى موقف الامتحان، كأنّهم يخرجون من قبورهم. يبقى مثلا من الدّرس خمس دقائق...فيحملهم الأستاذ على شيء، فيتعلّلون بأنّ الوقت انتهى أو كاد...كأنّما هذه الدّقائق الخمس لا قيمة لها في معاجمهم...و رحم الله أستاذا لنا كان يقول لنا: " عشر كلمات في مدى خمس دقائق كلّ يوم تجعلك تحفظ مفردات اللغة العربة حفظا صحيحا ". هذه الدّقائق التي تذهب ضياعا... و تذهب بذهابها ساعات و أيام كان ينفقها الطّلاب القدماء في المطالعة الضّرورية و الكمالية فتأتي ثقافتهم أشمل و أغزر، بينما انصرف طلابنا المحدثون عن تقدير المطالعة و لم يوفّروا من وقتهم إلا ما يكفي أو يكاد يكفي للمواد المدرجة في برامجهم..فلذلك بتنا نواجه طلابا محدودي الثقافة، لا اتصال بينهم و بين ثقافة العصر الذّي هم فيه، إذ سألتهم عن أديب أو كتاب أو مذهب أدبي، ارتسمت علامات الاستفهام على وجوههم، لأنّهم لم يسمعوا بمثل هذا...في الوقت الذي تستهويهم فيه المجلات و الصور ليرفهوا بها عن شيخوخة متقمّصة في شبابهم، و كهولة غالبة على شبابهم. و إن تعجب فاعجب معي لهذه الفئة التي تجيز لأنفسها أن تقبل على ما يفسد أذواقها و يحطّ من آدابها، و يهبط بعقليتها... و هم لو حسبوا ما يضيّعونه من أوقاتهم بمقياس المطالعة المثمرة مثلا لراعهم أن يروا كومة من الكتب يستطيعون انجازها و الاستفادة منها و لكنّهم يضيّعون فرصة الشّباب و النّشاط فيما لا يفيد، ناسين أنّ الفرصة إذا ضاعت فلن تعود، و جاهلين أنّ التّعوّد على الخمول مرض متى سرى في الجسد استمرّ مريره و ثبتت جذوره حتّى يبعث في نفوسنا البلادة و في أفكارنا الرّكود و الصّدأ... و النّاس في بلاد النّاس تراهم يتراكضون إلى أعمالهم كأنّهم الأمواج المندفعة بنشاط و حميّة...كلّ واحد يحرص على ألا يكون أضاع في طريقه أكثر ممّا يجب، بينما ترى أناسا إذا سلكوا ظهر الطّريق سلكوه بخطوط منحنية كأنّهم يحاولون أن يطيلوا من الطّريق مادام يجدون ساعاتهم طويلة تبعث على الملل، و إذا مشوا على حيد الطّريق و رصيفه تكتّلوا كتلا كأنّهم الصّخور التي اندفعت على الطّريق فسدّته..لا يتركون ممرّا لعابر و لا مجالا لسالك...و إذا دفعهم مستعجل ما قابلوه بعيون خُزْر و شفاه تمطّ كأنّهم يقولون: و لماذا العجلة ؟ النّاس الحريصون على الوقت يعتبرون الطّريق ممرّا، و النّاس الحريصون على إضاعة الوقت يعتبرون الطريق مسكنا لهم و معرضا يحمل إليهم وجوه النّاس... و هناك الموظّف الّذي تطوى أوراقه أمامه فتأتي أوراق أخرى و يتراكم بعضعا على بعض لأنّها ولدت في غير وقتها و ماتت في غير وقتها، بينما زميله غارق في انجاز عمله. إذا نظرت إلى هذا كلّه قلت معي: إنّ العاملين يموتون ضحية الوقت، بينما العاطلون و المتخاذلون يموت الوقت ضحيّتهم... و لست أذكر قائل هذه الجملة التالية: " ليتني أستطيع أن أبتاع أو أستعير لك السّاعات، بل الأيّام الفارغة التي يملكها شبابنا الحديث." و لكنّي أذكر قول الشّاعر: إذ فاتني يوم و لم أصطنع يدا ** و لم أكسب علما فما ذاك من عمري هذه لعمرك الحياة بقيمتها الحقيقيّة، فإذا طرحنا من أعمارنا تلك السّاعات التي فاتتنا دون اكتساب و لا فائدة، فكم يبقى عندئذ من أعمارنا لنا ؟ إنّ هذه السّاعة الواحدة التي نحقّر من شأنها لخليقة أن تصيّر الجاهل عالما، و أن تحوّل الحياة القفرة إلى حياة خصبة، و العقل الفارغ إلى عقل مليء بالسّداد و الحكمة... و إذا كان هذا عمل ساعة واحدة، فما قولك بعمل ساعات، بل أيّام، بل عمر كامل يذهب ضحيّتنا ...

0/Post a Comment/Comments