تجنّب الغشّ و الاحتكار

في شهر رمضان كما هو معلوم تنشط الحركـة التجــارية و الاقتصادية بصفة مكثفة. والتجارة من أفضل الكسب ومن أجل الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى ربّه إذا ابتغى بها وجه الله تعالى، وكسب قوته وقوت عياله بالحلال، فمن كان صادقا أمينا في تجارته، وهدفه التيسير على الناس، والرضا بالربح القليل، بارك الله له في تجارته ووسّع عليه سبل رزقه، وملأ قلبه طمأنينة، وجعل أيّامه في الحياة الدّنيا هنيئة وسعيدة وفاز فوزا عظيما في الآخرة. ولشرف التجارة، اشتغل الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه بها قبل بعثته، فكان نعم التاجر، شعاره الصّدق والأمانة وحسن الكلمة والرّبح القليل وعدم الاحتكار والاستغلال والإضرار بالناس ، فعاد بربح وفير، ونال الثّناء العظيم، وثقة الجميع، وكسب محبّتهم وتقديرهم له، فوصفوه بالصّادق الأمين. وقد حثّ رسولنا محمّد صلوات الله وسلامه عليه التّجار على الالتزام بمعاني الخير، والخصال الحميدة، وبين عاقبة المحسن منهم فقال: (التاجر الصّدوق الأمين مع النبيين والصدّيقين والشّهداء) [ رواه الترمذي] . وليعلم التّجار أن للكسب طرقا مشروعة أحلّها الله، وطرقا أخرى غير مشروعة حرّمها الله، وأكّد رسول الله صلى الله عليه وسلّم على حرمتها، و من بين الطّرق غير المشروعة و التي انتشرت في زمــاننا هذا و استفحلت ظاهرتا الغـــشّ و الاحتكـــار اللتان يعتمدهما بعض التجار أصحاب النفوس المريضة الذين استحوذت عليهم الأنانية و حبّ الذّات، هؤلاء يدفعهم جشعهم و طمعهم اللامحدود إلى تكديس الأموال حلال كان أم حراما طلبا للثراء الفاحش و النعيم الدنيوي المترف على حساب أقوات و أرزاق الضعفـاء و الفقراء. إخوتي الأفاضل، سيكــون - بعون الله و توفيقه - موضوع هذه الليلـــة محوره تجنّــب الغـــش و الاحتكار. لقد ذمّ الله عزّ وجلّ الغشّ وأهله في القرآن وتوعّدهم بالويل، ويُفهم ذلك من قوله تعالى: [ وَيْلٌ للمطففين] ( المطففين:1-3). فهذا وعيد شديد للذين يبخسون- ينقصون- المكيال والميزان. النّبي صلّى الله عليه وسلّم حذّر من الغشّ وتوعّد فاعله، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم مرّ على صُبرة طعام ( أي ما جُمِع من طعام بلا كيل أو وزن ) فأدخل يده فيها فنالت أصبعه بللا فقال ما هذا يا صاحب الطعام ؟ قال أصابته السّماء - أي المطر - يا رسول الله , قال أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ؟ من غشّنا فليس منّا [رواه مسلم]. فكفاك أخي التّاجر لفظ نبيّنا الكريم " ليس منّا" زجرا عن الغش، حتى ترتدع و تحذر من الوقوع في مستنقع الغش النجس. أ يرضيك أخي التاجر أن يتبرّأ منك سيدنا محمـّد صلّـى الله عليـه و سلّـم و يطردك من ملّته و يحرمك شفاعته ؟ إخوتي الأفاضل نحن في أمسّ الحاجة إلى عرض هذا الوعيد على القلوب لتحيى به ضمائرنا، حتّى نراقب أعمالنا مراقبة ذاتية أعمالها، دون أن يكون عليها رقيب من البشر، فالتاجر الذي لا يخشى الله و لا يجعل ضميره رقيبا عليه، لا يردّه رادّ و لا يردعه رادع لأنّ ما يعتمده من حيل جهنّمية و أساليب شيطانية من خداع و تضليل و مراوغة تفوق قدرة أعوان الرقابة و حماة المستهلك مهما بلغوا من حزم و يقظة. وصدق من قال: ولا ترجع الأنفس عن غيِّها *** ما لم يكن منها لها زاجر فلنتعرّف معا على مفهوم الغش: - يقال: الغشّ ما يُخلط من الرديء بالجيّد. - الغش أن يعلم صاحب السلعة عيبا في سلعته، و يتعمّد إخفاء ذلك العيب لأن المشتري يعلم بالعيب لا يقدم على شراء البضاعة أو دفع الثمن المطلوب. وما أكثر الغش في زماننا و في أسواقنا!! ويكون الغشّ بمحاولة إخفاء العيب، ويكون في طرق أخرى كالغش في ذاتية البضاعة أو عناصرها أو كميتها، أو وزنها أو صفاتها الجوهرية أو مصدرها. خضّار يخدع الحريف بإظهار الجيد من الغلال و الخضر في أعلـى الصندوق و الأقل جودة في الأسفل. تاجر زيت يخلط زيت الزيتون بزيت نباتي آخر بنسب متفاوتة، و يعرضه على أساس أنه زيت زيتون صاف. صاحب محلّ لبيع الملابس يستعمل الإضاءة الملونة أو القاتمة ليخدع عين الحريف، فيبدو له القبيح من الملابس حسنا. سائغي يعمد إلى شراء قطع حلي و مجوهرات مستعملة ثم يعرضها للبيع على أساس أنّها قطع جديدة بعد أن يقوم بتنظيفها و إدخال بعض التحويرات عليهـا و لا ينبه الحريف بأنها مستعملة. تاجر سيارات مستعملة يعمد إلى وضع زيت ثقيل في محرك السيارة حتى يظن المشتري أنها بحالة جيدة. آخر يتفق مع صاحب له ليزيد في ثمن السّلعة فيقع فيها غيره. وهذا هو النّجش الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. تاجر مواشي يلجأ إلى تغذية الأغنام بالملح قبل عرضها بالسوق حتى يظن المشتري أنها سمينة وهي بخلاف ذلك. صنائعي لا يستعمل نوعية المواد المتفق عليها مع الحريف. وأترك لكم المجال لتضيفوا ما خطر في ذهنكم من صور الغش في البيع والشّراء أو الصّنع و العياذ بالله. لقد نهانا الله عزّ و جلّ عن أكل أموال النّاس بالباطل حيث قال: " يا أيّها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ". فالغشّ هو أكل أموال الناس بالباطل و كذلك الاحتكار فهو أيضا ضرب من ضروب أكل أموال الناس بالباطل. الاحتكار هو شراء السّلع الضرورية للأفراد و تخزينـهــا و الامتناع عن بيعها حتى تقل و يرتفع سعرها و يكون الغلاء الفاحش بسبب قلّتها. ولا يكون الاحتكار إلا ممن فسد طبعه، وساء خلقه، وهو ممقوت شرعا، مذموم عقلا، وسبب مقته وذمّه إضراره بالناس، والتضييق عليهم في أمر معيشتهم، علما بأن البيع لم يُشرع إلا لتسهيل الحصول على السلع المطلوبة وتوفيرها بأرخص الأسعار، والاحتكار يتنافى مع الحكمة التي من أجلها شرع الله البيع وجعله حلالا طيبا، ويتنافى مع الأخلاق الإسلامية التي تدعو إلى التّعاون على البرّ والتّقوى ورحمة الفقراء وعدم الطّمع في مال الأغنياء. إنّ الاحتكار في هذا الزّمن صار لها صورٌ متعدّدة، ومنها انحصار استيراد السّلع المُعيّنة التي يحتاجها الناس بأشخاصٍ معينين، بحيث يمنع غيرهم من استيرادها. ومن صورها كذلك الوكالات الحصرية التي تسأثر بترويج نوع من السّلع، و لا يمكن لغيرها من الوكالات منافستها في ترويج نفس السلعة، فيتحكّم هذا الوكيل بالأسعار، أو يتواطأ هؤلاء الوكلاء المعدودون على رفع هذه الأسعار . والتاجر المحتكر الجشع الذي لا هدف له إلا جمع أكبر قدر من المال من حلال أو حرام سعيا إلى فيعمد إلى استغلال الناس واحتكار السلع ورفع أسعارها، هذا تاجر لا يبارك الله له في تجارته ولا في أهله وماله، وبالإضافة إلى شقائه النفسي وقلقه الروحي، فلا تراه إلا متبرّما ساخطا عابسا مقطّب الجبين وكأنّه جمع هموم الدّنيا بأكملها بين عينيه، لا يهدأ له بال، ولا يقر له قرار إلا باستحواذه بمفرده على السلع ليرفع من أسعارها بمقدار شرهه وطمعه تلبية لرغبته الجامحة في جمع المال واستغلال الخلق مما يؤدي إلى سخط وغضب الرب جل وعز. فالمحتكر غير قانع بما قسمه الله له، فهو ضعيف في عقيدته وإيمانه، غير واثق برزق ربّه، ولذا فقد استحق الطّرد والإبعاد من رحمة الله تعالى يوم القيامة، لأنّه لم يرحم عباد الله في الدّنيا، قال رسول الهدى ونبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم: (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون) رواه ابن ماجة. واللعن معناه الطّرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، فكيف يرضى بعض التّجّار المحتكرين على أنفسهم أن يُطردوا من رحمة الله بسبب احتكارهم، ومن أجل عرض زائل؟ قال عليه الصلاة والسلام (من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برىء من الله تعالى وبريء الله تعالى منه، وأيّما أهْل عَرصَة ( ساحة ) أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تعالى) رواه ابن ماجة جـ 2، ص 46 . فبالله عليكم أيها المحتكرون أي عقوبة أشدّ وأقسى من أن يتبرأ الله تعالى من المحتكر على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. هذا وإن حكم احتكار السّلع يماثل حكم اكتناز الذّهب والفضّة فكلاهما يضرّان بالنّاس الفقراء عموما، والمعوزين خصوصا. والمحتكر يا عباد الله يشبه إلى حدّ كبير المرابي، فكلاهما يفرح بضيق الأرزاق والعنت والشّّدة على عباد الله، ويغتمّ إذا أرخص الله الأسعار لعباده ووسّع عليهم أرزاقهم، قال الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه ( بئس العبد المحتكر إن أرخص الله الأسعار حزِن وإن أغلاها فرِح) رواه الطبراني. وظاهر هذا الحديث وغيره، تحريم الاحتكار للطّعام وغيره، فلا يظن أحد أن الاحتكار ينحصر في الطّعام دون غيره، ولكنّه يشمل كل ما يحتاجه النّاس من طعام ودواء ولباس وعلم وغير ذلك، ومن احتكر يكون قد ارتكب أخطاء جسيمة في حقّ نفسه وأهله ومجتمعه. قال عليه الصلاة والسلام: (لا يحتكر إلا خاطئ) [ رواه ابن ماجة ] فلا يجب أن نستهين بكلمة " خاطئ " لأن الله وصف بها المجرمين في قوله تعالى: [ إنّ فرعون و هامان و جنودهما كانوا خاطئين ] ( القصص 8 ). وعقوبة المحتكر ليست أمرا هيّنا في الآخرة، فقد بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه العقوبة بقوله: ( من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليُغلّيَه عليهم كان حقًّا على الله أن يُقعِده بعِظَم من النّار يوم القيامة" أي يجعله بمكان عظيم من النّار يشتدّ عذابه عليه فيه. ) [ رواه أحمد في مسنده ]. إنّ الإسلام في جميع معاملاته المالية حريص على تحقيق المنفعة العامّة للتجّار والمستهلكين دون أن يطغى جانبٌ على جانب، أو حقٌّ على حقٍّ، إلا أنّه يقدّم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد متى لزم الأمر. و علينا مدّ يد العون للتّاجر المسلم الأمين، إذا تعرّض لخسارة فادحة حتّى يسدّ خسارته. هذا شرع الله في التّجارة وحكمه في الاحتكار، فاتقوا الله أيها التّجّار، واحرصوا على أن تكونوا من التّجّار الأخيار الأبرار، ولا تكونوا ممن ساءت طويتهم وغلبت عليهم أنانيتهم، فباعوا نعيما دائما، وآخرة خالدة بحُطام زائل ودنيا فانية، وليكن لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الأسوة الحسنة. تشبّهوا بالصّحابة الكرام في مآثرهم الجليلة واعملوا كما عملوا، يُعظّم لكم ربّكم أجرَكم، ويسجّل التّاريخ لكم مآثركم كما سجّلها لهم. فهذا عبد الرحمان بن عوف التّاجر النّبيل الّذي تحرّى الحلال في تجارته وابتعد عن الشبهات فيها، والذي لم يكن عبدا للمال ولا أسيرا للطمع والجشع والاحتكار، بل كان سيّدا لماله، كريما به، يجود بسخاء وعطاء موصولَيْن، يتعهّد به الفقراء، تصدّق بقافلة له تعدادها سبعمائة راحلة بما تحمله من خيرات وأرزاق على فقراء المدينة في وقت نقُصت فيه المؤونة والسّلع. وذاك أبو بكر الصّديق رضي الله عنه الذي كان يعمل بالتجارة قبل أن يتولّى الخلافة، يجود بكل ماله وعندما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: (يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله) [ رواه أحمد ]. و الأمثلة عديدة من الصّحابة التّجار الذين كانوا يحيطون برسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يستغلّوا المسلمين أيّام المحن والشّدائد، بل بذلوا ما يملكون خلالها ليخرج المجتمع الإسلامي من محنته وهو أقوى إيمانا وأصلب عقيدة وأشدّ تكافلا. إنّ صِدْق الانتماء لهذا الدّين، ولهذا البلد الطّيّب وأهله يوجب على التّجّار عدم الاستغلال والاحتكار، كما أن التّاجر الصّدوق الأمين لا يحتاج إلى مراقب أسواق ليطّلع على أسعاره ومخازنه لأنّه يشعر بمراقبة الله له في كلّ لحظة، وهذه أحكم من رقابة العباد، ومن هنا وجب تعميق روح الإيمان وإبراز معاني الخير في نفوس التّجّار الأبرار. أمّا المجتمع فعليه واجبات كثيرة أهمّها، التّعاون مع أجهزة الدّولة في محاربة هذه الظّاهرة السّلبية. اشتكى أناس للإمام الشّافعي من غلاء اللحوم فقال لهم: اتركوه تُرخّصوه، فقاطع النّاس اللّحوم فكسدت سوقها فاضطر التّجّار إلى إرخاصها. كما أن على الدّولة واجبا آخر هو معاقبة هؤلاء التّجار المستغلّين والمحتكرين عقابا صارما وسنّ القوانين الرّادعة لمنع عبثهم وفسادهم واحتكارهم للحاجيات واستغلالهم لخلق الله. نسأل الله تعالى أن يوفّق الجميع لما فيه الخير والصّلاح والفلاح وطاعته ورضاه. وقانا الله وإياكم كل عمل يبعدنا عن رضا الله وجنّته، ورزقنا وإيّاكم الرّزق الحلال المبارك فيه.

0/Post a Comment/Comments