الشّفقة تصفع الإنسان و المحبّة ترفعه إلى أعلى مكان

كم تردّدت كلمة المحبّة السّاحرة في أفواه الأنبياء و المصلحين، و كم تكرّرت حروفها على أقلام المبشّرين بالإنسانية...ومع ذلك لا تزال بعيدة عن قلوب النّاس في مجتمع لا يحبّ الصّديق فيه صديقه، و لا الأخ أخاه، فكيف يحبّ الإنسان عدوّه؟ المحبّة هي أن تؤمن بالإنسانيّة، و لذلك تقدّس المحبّة معنى الإنسانيّة في أيّ كان: في المجنون و الأبله و العاقل و المجرم و الشّقي، و لكنّها كذلك نقدّسها في الغني و القوي و السّكير و القاسي و الغيور و الحسود، إذ نساعدهم على تطهير نفوسهم، ثمّ نعمل على محبّتهم. ليس الشّأن في المحبّة شأن صدقات تعطى، لأنّ المحبّة الحقّ لا تعطي شيئا و إنّما تطلب. أجل إنّها تطلب للغير أن يكون إنسانا. إنّ هناك – و لا ننكر – لئاما من النّاس و جبناء و حمقى، و لكنّ المحبّة تفتّش تحت مستنقع اللّؤم نفسه عن حنان عميق خفي...و تبحث على مهاد الحمق و الجهل، عن حكمة هادئة رصينة، و في أيّة خصومة مهما كان نوعها، تقوم هناك حالتان ممكنتان: الأولى تقول فيها: " هذا إنسان اعتقاده سيّء، يبحث عن مخادعتي، فلا أرذّ على سوئه بسوء مثله، و لا أقابل خديعته بخديعة ." في هذه الحالة لا تزيد من عاديته إلا عداوة و ضراوة. و سيردّ عليك عداوتك فيحمي نفسه منك بالاحتقار، و بذلك خلقت لنفسك عدوّا مبينا. و الحالة الثّانية تقول فيها: " إن هذا إنسان ذو عقيدة حسنة، يعمل ما يعمله بحقّ، فبأيّ قياس يا تُرى قد خدع نفسه، و ماذا أستطيع أن أفعل لأريه خطأه ؟ " لو فعلتُ ذلك لاكتشفت بأنّي أنا أيضا على خطإ في بعض الأشياء، و ربّما اكتشفت خطئي قريبا أو بعيدا، و إذ ذاك أرى أنّ خصمي إنسانا مثلي، أحترم معنى الإنسانية فيه. و مثل هذا الاحترام الّذي هو محبّة أيضا، سيشعر به الآخر كما شعرت أنت به. فتكون بينه و بينك صلات لا تقوم على مقاومة الغضب بالغضب، و الحقد بالحقد، و إنّما تقوم على أنّ هناك إنسانا يعامل إنسانا... المحبّة لا تطلب إلينا أن نتراخى في الدّفاع عن أفكارنا أو مصالحنا الكبرى المرتبطة بنا، و لكنّها تطلب إلينا أن ندافع عنها دون أن نبغض الآخرين الّذين يخالفوننا في أفكارنا. أليست المحبّة تحترم الإنسانية في الغني و القوي و القاسي و الغيور ؟ إنّ المحبّة لا تفرض علينا أن ننظر إلى من يخالفوننا في عقيدتنا و طريقتنا نظرة العداوة، و لكنّها تريد حتّى في الخصومة أن يؤدّي كلّ دوره بشرف. و أنت في ساعة قتالك لخصمك لا تنقطع عن احترامه، بل محبّه أيضا.
و لا يحسبنّ أحد أنّ هذه الفضيلة الّتي نطلبها فضيلة لا تطيقها طبيعة النّفس البشرية... ففي العالم نفسه، حيث تصطرع الأهواء و تتلاطم النّزعات و الأنانيات لا نعدم أن نجد أمثلة رائعة للخصومة الشّريفة الّتي تنتهي في حدود...سئل أحد العظماء عن خصمه فقال: " قولوا عنه ما شئتم، و لكنّه هو الشّرف نفسه، و لذلك أحبّه." و هكذا مرّة أخرى، نجد المحبّة لا تطلب إلينا أن نكفّ عن النّضال فيما نجده حقّا و عدلا، و لكنّها ترجونا ألا نجعل معارضتنا لأعمال الآخرين احتقارا لأشخاصهم. و إزاء العيوب نفسها ألا نجد المحبّة مشفقة ؟ فاللّئام هم غالبا أشقياء، و إعطاؤهم الثّقة في التّغلّب على مرضهم الاجتماعي إنّما يكون في انتشالهم من عزلتهم السّوداء، و إشاعة الاطمئنان فيهم، و ردّ حقوقهم و شرفهم إليهم. فالقاضي يعاقب لأنّ القانون يستوجب العقاب، و لكنّه يكون محبّا لا قاضيا حين ينقذ المجرمين و يساعدهم على ردّ مكانتهم الاجتماعيّة، و حين يجد استجابتهم للإصلاح. إنّ المحبّة نفسها لا تيأس و لا تتعب و لا ترتدّ عن تجاربها الإنسانيّة، حتّى الإنسان الّذي آمن بها، و همّل عليها حياته و مات خاسرا فيها يترك لمن بعده مثلا خالدا من المحبّة لا يموت.

0/Post a Comment/Comments