في الحمّام

أهلا و سهلا!.. بهذه الكلمة ابتدرني غلام على باب الحمّام، فردّ آخر على مقربة منه: " أهلا و سهلا!.." و قال صاحب الحمّام أيضا: " أهلا و سهلا !.." و ردّد الحمّام: " أهلا و سهلا !.. " وسط هذا التّرحيب نزلت درجات، فهرع نحوي شاب و قادني إلى دكّة عالية، حيث فرش على أحد المقاعد مناشف حريرية، و أخذت أنزع ثيابي الدّاخليّة فتناول منشفة كبيرة و نشرها و أشاح بوجهه عنّي. كان الحمّام غاصّا بالزّبائن على اختلاف طبقاتهم، بينهم العامل و التّاجر، الفقير و الغني، و الحمّام – كما هو معروف – ثلاثة أقسام: البرّاني و الوسطاني و بيت النّار أو بيت السّخون، و قد انتشر المستحمّون في هذه الأقسام الثّلاثة. أدخلني المكيّس أو " الطّيّاب " إلى مقصورة حجزها لي و ألقى على بابها إزارا إشارة إلى أنّها محجوزة، و انصرف المكيّس إلى بعض شأنه على أن يعود بعد قليل. المقصورة مظلمة لولا أنوار ضئيلة باهتة كانت تتسرّب من زجاج ملوّن في أعلى القبّة، و الهواء رطب فاسد يثقل الصّدر، فلم أطق البقاء طويلا، ضاق صدري، فخرجت إلى ردهة كبيرة بين المقاصير، و جلست على مصطبة أستنشق قليلا من الهواء. رأيت النّاس ممتدّين على البلاط الحارّ، هذا يكيّسه المكيّس، و ذاك يليّفه مرافقه و الآخر ينتظر دوره، و كلّهم عراة إلا من إزار يشدّونه حول وسطهم،و كما يقال " العريان مع العريان لا يتقابلان إلا في الحمّام ". رأيت الغنيّ و الفقير، و الوجيه و الصّعلوك، فلم أستطع التّمييز بينهم. لقد خلع الفقير أطماره الباليّة، و الغنيّ حلله الغاليّة، و بدوا جميع في زيّ آدم – ربّنا كما خلقتنا – لا يختلفون إلا بالقوّة العضليّة الجميلة التي اكتسبتها أجسام الفقراء من مزاولة أعمالهم القاسية المجهدة، و البدانة القبيحة التي تبدو في أجسام الأغنياء المترفين! لست أدري لماذا أخذت أتخيّل يوم الحشر و أنا أستعرض هذه النّماذج البشريّة، عدد لا يحصى من المخلوقات، بشرا و حيوانات، نساء و رجالا و أطفالا سيحشرون عراة حفاة في يوم واحد،[ يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ]. هذه الحشود ستقف بين يدي الله عاريّة – كما شاهدتها في الحمّام – و قد زالت الفوارق الاجتماعيّة، فهناك لا يفضّلُ أحد على أحد إلا بالتّقوى، و هناك كما في الحمّام طاسات ساخنة هي زقوم و يحموم و غسلين، و طاسات باردة رَوْحٌ و ريحان و جنّة نعيم !.. عدت إلى مقصورتي و تناولت الطّاس، و أخذت أسكب الماء على جسدي، ثمّ انفلت الطّاس من يدي فوقع على أرض الحمّام، فسمعت لسقوطه رنّة موسيقيّة جميلة ذكّرتني بصوتي الّذي يتحسّن في الحمّام، و اغتنمت فرصة وجودي وحدي قبل عودة المكيّس، فأخذت أردّد بصوت خافت أغنية قديمة كانت والدتي تغنّيها لي في الحمّام. و الواقع أنّي أشعر بتحسّن نسبي في صوتي، فانتعشت و انتقلت فورا من نشوة الماضي إلى ليالي عبد الوهّاب و قصائد أم كلثوم، و انقطعت عن الغناء و عدت أتكلّف الرّزانة عندما دخل المكيّس يحمل كيسا و لفيفة و صابونا.. كان المكيّس شيخا هرما تبدو علـى وجهــه علامات الكآبـة، بدأ يدلـك جسـدي، و فيما هو كذلك بدا لي أن أتحدّث إليه، فقلت: - ألا يضيق صدرك يا عمّ شعبان من البقاء ليلا و نهارا في الحمّام ؟ - لقد تعوّدنا ذلك يا ولدي: ما العمل؟ يجب أن نشتغل لنعيش و كما يقال " شاقي و لا محتاج ". و عاد إلى عمله صامتا، و عدت أفكّر في هذا الرّجل الّذي يحرم نفسه النّور و الهواء ليغسل أدران النّاس بلا ملل ليعيش. و أخيرا خرجت و لبست ثيابي، و نظرت حولي فإذا بالفقير قد عاد إلى أطماره البالية و الغنيّ إلى حلله الغالية، و كنت أفضّل أن أراهما دائما كما كانا في الحمّام، و ارتسمت في مخيّلتي صورة العمّ شعبان ذلك الشّيخ الذي يغسل أدران لنّاس ليضمن قوت عياله، و اتّجهت نحو الباب بينما كان صاحب الحمّام يقول: " صحّه الحمّام " و الغلام على مقربة منه يردّد: " صحّة الحمّام .. العاقبة لحمّام الحجّ ".

0/Post a Comment/Comments