الحرّيّة الأدبية من المروءة إلى الوقاحة

قال أحد الحكماء: " ليس من الحرّيّة الأدبيّة أن تقول في الغائبين شيئا لا تجرؤ على أن تقوله أمامهم ". الحرّيّة حقّ من أسمى حقوق البشر، و بدونها لا تزدهر الحياة و لا ترفرف السّعادة، و لا يتقدّم المجتمع. و الحرّيّة الأدبيّة ضرب من ضروب الحرّيّة، يستطيع المرء في ظلّها أن يعبّر عمّا في ضميره و أن يقول ما يعتقده أنّه حقّ و عدل، و أن يدافع عن حقّ إذا رآه مهضوما، و عن المضطهد إذا رآه مظلوما، و أن يقول كلمتي الخير و الشّرّ للأخيار و الأشرار في وجوههم دون أن يرجو النّفع من الأولين، أو يخشى الأذى من الآخرين. والفرق عظيم بين الحرّيّة الأدبية التي تصدر عن شجاعة و مروءة و فهم و إنصاف، و بين الوقاحة التي تنمّ عن سقوط في الخُلُق، و تدنّ في المروءة و فساد في الطّبع و لؤم في الضّمير. و أسوأ من الوقاحة أن يعمد المرء إلى القول السّيّء ينال به الغائبين بلؤم و وقاحة، وهو لا يجرِ على أن يفتح فاه بسوء أمامهم. و هذا ما نسمّيه الغيبة وهي إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على ضعة المتّصف بها و سقوط نفسه و فساد طبعه و لؤمه و جبنه. وهي صفة ذميمة تجلب الشّرّ، و تدعو إلى التّفرقة و توغر الصّدور، و تثير الأحقاد و تعود بالضّرر البالغ على الفرد و المجتمع، و إنّ المغتاب جدير بكلّ احتقار و ازدراء، بل هو حقيق بأن يفرّ من وجوه النّاس حياء و خجلا، و العاقل من أبت نفسه الانزلاق في مهاوي هذه الخصلة الرّديئة فتطهّر من أدرانها، و عمل على محاربتها بكلّ ما في وسعه. قال الله تعالى: " يا أيّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظّنّ، إنّ بعض الظّن إثم، و لا تجسّسوا و لا يغتب بعضكم بعضا أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميّتا فكرهتموه، و اتّقوا الله إنّ الله توّاب رحيم " و قال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم: " ألا أنبّئكم بشراركم، قالوا بلى يا رسول الله. قال: شراركم المشّاؤون بالنّميمة، المفسدون بين الإخوة، الباغون العيوب". و قال عليّ رضي الله عنه: " الأشرار يتبعون مساوئ النّاس و يتركون محاسنهم كما يتبع الذّباب المواضع الفاسدة". و المغتاب مخلوق لئيم، حقود، جبان، لا يعرف المروءة و الكرم، قد جُبِلت نفسه على النّذالة فلا يجد راحة لنفسه إلا في اغتيب النّاس و كشف ما ستروا من عوراتهم، فهو أداة هدم في المجتمع، وهو حين يغتاب إنّما يشفي بذلك نفسه الحاقدة التي تتنزّى حقدا و ضغنا على الآخرين. و المغتاب يحاول أن يجد لجرائمه في الاغتياب آذانا مصغية، فهو يحاول أن يستغلّ النّفوس الضّعيفة فيجعلها هدفا لشحنها بما في نفسه من حسد و حقد، وهو واثق بأنّه لن يجد من أصحاب هذه النّفوس من يستطيع أن جماحه أو يلجم فاه، ذلك لأنّ النّاس يخشون أن ينالهم المغتاب بسوء، فيتفادون شرّه باستخذائهم له و إنصاتهم إلى أقواله المؤذية في الآخرين. و كثيرا ما ينشأ عن الغيبة من المآسي ما يخلع القلوب هلعا و حزنا، فكم من بيوت عامرة بالحبّ و الصّفاء دمّرتها الغيبة و أشاعت فيها البؤس و الشّقاء و كم من عداوة غذّتها الغيبة فمضت تفتك في النّاس و تفعل في العلاقات الطّيّبة القائمة بينهم فعل النّار في الهشيم.

0/Post a Comment/Comments