السّيّد أنا

جميل أن يفخر المرء بسجاياه و خصاله الحميدة، و جميل أن يعتزّّ المرء بأسرته و أهله و ذويه و فعاله و نسبه، و لكن من السّخف أن يدّعي الإنسان ما ليس فيه و أن ينسب لنفسه ما ليس له و أن يستأثر بكلّ شيء حسن لا لشيء إلا ليرضي دافعا من أنانيته و حاجة نهمة في نفسه و ليرضي ميولا شاذّة و نفسيّة معقّدة. كنّا بضعة أصدقاء نشكّل عصابة متآلفة متحابّة يضمّنا حيّ واحد، كنّا نتفسّح معا و نتسوّق معا و نغدو إلى المقهى و نعود منها معا، نسمر و نلعب و نضحك، فعالمنا الخاص فيه من الحوادث ما يجعل رباط صداقتنا وثيقا لكلّ منّا شخصيّة تتميّز عن الآخر، فهذا رصين عاقل، و هذا فكه ضحّاك،و ذاك إمّعة لا تميّز فيه اتجاها، و كان من جماعتنا واحد مدّع أناني، ليس من حادث في الأرض إلا و مرّ به، و لا من أمر خطير إلا و كان هو محوره، فصاحبنا المعقّد يدّعي القدرة على حلّ أعقد المشاكل و أعسرها، فهو في نظر نفسه مرموق المكانة و محترم من طرف الجميع أينما حلّ، و معارفه من عليّة القوم لا يتورّعون في قضاء شؤونه أينما حلّ. يخال صديقنا نفسه ملمّا بشتّى أنواع المعارف و العلوم، متعدّد المواهب، فلا يتوانى عن الحديث عن بطولاته الرّياضية و إبداعاته الفنّية الوهميّة، رفيقنا هذا فرض علينا بتصرّفاته و ادّعاءاته أن نلقّبه سخريّة بالسّيد " أنا ". من منّا في ذكاء السّيّد أنا؟ فقد حدّثنا أنّ أحد أساتذته سابقا كان يعجز دائما عن اكتشاف مواطن ذكائه المفرط لذا كان يعنّفه على غبائه و تقصيره. أين نحن من شجاعة السّيّد أنا؟ و لكنّ تخاذله حيال اعتداء أحد الصّعاليك عليه و استسلامه للكماته و صفعاته هو تعقّل و حكمة و إلا فهو يستطيع بلكمة واحدة من قبضته الحديدية أن يسحقه، وهو لا يشاركنا في لعبة الورق حتّى لا يكسفنا ببراعته الفائقة في اللعبة، و لا يريد أن يطلعنا على بعض انجازاته الإبداعية المزعومة مخافة ألا نسرق أفكاره. تأخّر بنا الوقت ذات ليلة و نحن نتسامر في المقهى، فاسحب بعضنا اجتنابا لما يحصل من مشاكل مع زوجاتهم، بينما وقفنا نحن و معنا السيّد أنا نناقش مشكلة التّأخر عن بيوتنا و ردّة فعل زوجاتنا و أهالينا إذا ما عدنا في ساعة متأخّرة من الليل، فتحمّس السّيد أنا و قال إنّه يستطيع أن يتأخّر عن العودة حتى مطلع الفجر، بل هو يملك حقّ عدم العودة إلى البيت مطلقا و تخشى زوجته أن توجّه له لوما بل حتّى عتابا رقيقا، فهو سيّد أمره لا يملي عليه أحد إرادته إنّما هو الذي يوجّه و يقود و يأمر و ينهى في البيت، و لا يغترض احد على أمره و لا يخرج إنسان عن طاعته. كنّا نستمع إلى السيّد أنا في وجوم و رغبة في الكفّ عن هذيانه، و لشدّة ذكاء السّيد أنا لم يلحظ وجومنا و لم يكفف عن الكلام إلا بعد أن رنّ جرس هاتفه الجوّال ففتحه مذعورا و همس بصوت خافت " أنا في طريق العودة... أعدك أنّها ستكون المرّة الأخيرة" و حالما أغلق هاتفه أدار وجهه عنّا و انطلق لا يلوي دون أن ينبس ببنت شفة.

0/Post a Comment/Comments