من عزّ الملح إلى اسوداد الذّهب

هناك مقولة مأثورة لعلّها بيت شعر للخليفة المأمون تقول: يبقى الثّناء و تبقى الأموال ** و لكلّ وقت دولة و رجال غير أنّ صدر البيت اضمحلّ من الذّاكرة و لم يبق إلا عجزه المتداول الاستعمال ( و لكلّ زمان دولة و رجال ). بقيت هذه العبارة الوجيزة تعبّر على ما شهده التّاريخ البشري من بزوغ و أفول لدول و امبراطوريات و حضارات، كان بعضها حتّى المس القريب يتحدّى أن تغيب عنها الشّمس، غير أنّها انقرضت و تلاشت فلم يبق من شواهدها إلا بقايا بعض المعالم الأثريّة التي صمدت إلى حدّ ما في وجه الزّمن، فيما بقي لأخرى مآثر و مفاخر تدعو للاعتزاز و الفخر و الإعجاب. قد يغمر العجب الإنسان إذا ما أجال النّظر في خبايا التّاريخ و زواياه ليتبّين أنّ للتّاريخ وجوه أخرى و أنّ هذه المقولة لا تقتصر على جنس البشر فحسب، و إنّما تسري على العديد من المخلوقات و الكائنات الأخرى كالدّيناصورات التي هيمنت على الأرض لملايين السّنين ثمّ انقرضت بتاتا و لم يبق منها إلا صورها الافتراضيّة، و كذلك الشّأن لبعض السّلالات من الأشجار و النّباتات التي اندثرت. الجماد أيضا لم يسلم من تقلّبات الدّهر و صروفاته، فقد كان للعديد من المواد على غرار الحجر و المعادن حقب و أدور تألّقت فيها أنواع منه و اشتهرت ثمّ خفت تأثيرها. اتّخذت البشريّة من الحجر و المعادن مسمّيات لحقب عصور ما قبل التّاريخ، فالمؤرّخون أطلقوا على عصور ما قبل التّدوين العصر الحجري، يليه العصر البرونزي فالحديدي، رغم أنّ هذه المعادن مازالت حاضرة و فعّالة في الحضارة الإنسانية. الفضّة و الذّهب لم يكونا من الحوافز الهامّة لقيام دول و امبراطوريات منذ فجر التّاريخ حتّى قبيل عصرنا الحالي فحسب، بل كانا من الأسباب الرّئيسيّة في مآسي العديد من البشر و ما أصابهم من ظلم و اضطهاد، فبريق لمعانهما سلب العقول و الألباب، و بهما يستولى على قلوب النّساء و تشترى الضّمائر و تباع الأنفس. لعب المعدن الأصفر أي الذّهب دورا بارزا في تبرعم دول و امبراطوريات و ذبول أخرى، و كان له وقع كبير في اكتشافات جغرافيّة لجزر و قارّات كانت مجهولة، إذ تروي كتب التّاريخ أنّ المستكشف " كريستوفر كولمبس " لم يحصل على سفنه الثّلاث من ملكة اسبانيا ( ايزابيلا ) إلا بعد أن وعدها بأطنان من الذّهب، و لا يخفى على أحد تسبّبت به اكتشافاته من اجتثاث أمم و أعراق تعدّدت و تباينت من الأزتك و المايا في وسط و جنوب أمريكا إلى إبادة مئات العشائر و القبائل من الهنود الحمر في شمالها.. بل و ربّما ما نراه الآن ما كان ليحدث لولا تلك الاكتشافات التي كان الدّافع الرّئيسي منها الحصول على المعدن الرّنّان. حمّى الذّهب آنذاك انعكست على منتجات و بضائع أخرى حيث ازدهرت تجارتها و تنامت، فتوابل الهند أصبحت تصدّر إلى أوروبا، و الخشب الذي طالما ابتذل في أوروبا ذاتها زاد عليه الطّلب بغية بناء الأساطيل البحريّة إلى درجة تغيّر معالم الطّبيعة حيث فقدت بريطانيا على سبيل المثال معظم غاباتها بعد أن حوّلت أخشاب أشجارها إلى سفن و بواخر تجوب و تسود البحار لنهب خيرات الشّعوب الضّعيفة و ثرواتها بالقوّة و الإذلال. كثير من المواد التي تكالب عليها اللاهثون وراء الثّراء لقّبت بالذّهب، فالقطن لقّب بالذّهب الأبيض بعدما أزاح الجلود و الأصواف، ليتربّع على عرش المنسوجات و الملابس، وجني منه الثّروات الطّائلة، كما تسبّب في أعظم مآسي الاستعباد في التّاريخ، فخلال أربعة قرون شحن ملايين الأفارقة كالمواشي في عنابر قذرة ضيّقة مقيّدين بالسّلاسل إلى مزارع القطن في الولايات المتّحدة الأمريكيّة الجنوبيّة، ليعملوا و هم مستباحي الكرامة و العرض تحت نير سياط الأسياد البيض الرّافعين رايات التّنوير و التّقدّم و التّحرير. أمّا البترول الملقّب بالذّهب الأسود، فلا يخفى على أيّ عاقل منّا ما تسبّبه من انقلابات و مآس و حصار و حروب، وهو السّبب المباشر في تحطيم دولة العراق و تقتيل شعبها، و زرع الفتن و الأحقاد بين الأمم الأخرى. الأعجب من كلّ هذا أنّ هناك مادّة ليست من المعادن البرّاقة كالذّهب أو الأحجار الكريمة، و لا تضاهي قيمتها الخشب أو القطن أو النّفط و مع ذلك لعبت دورا هامّا في مسيرة البشريّة لا يقلّ أهميّة عن دور القطن و الخشب، بل و حتّى عن النّفط و الذّهب، وهي الملح. يروي أشهر و أوّل المؤرّخين الإغريق ( هيرودوت ) أنّ الجنود الرّومان الذين اشتركوا في احتلال شمال إفريقيا، كانوا يتقاضون رواتبهم بكمّيات من الملح عوضا عن نقود الذّهب، فكانت توزّع عليهم أكياس من الملح حسب رتبهم العسكريّة. أمر تسديد رواتب الجنود الرّومان بواسطة أكياس الملح يِكده الباحثون عن جذور المفردات اللغويّة، إذ يقولون أنّ كلمة رواتب الانجليزيّة ( salary ) ما هي إلا اشتقاق من كلمة ( salt ) التي تعني الملح الذي كان كالذّهب.. أمّا ما لعبه الملح من دور لا يقلّ عن القطن في استرقاق و استعباد العباد، فربّما كان أبلغ من أماط اللثام عنه هو الديب الموريطاني ( موسى ولد ابنو ) في روايته المعبّرة ( مدينة الرّياح ) التي بلغت من الشّهرة لما عكسته من واقعية و مصداقية، أن أقامت منظّمة ( اليونسكو ) بترجمتها من العربية إلى العديد من اللغات و نشرتها ضمن سلسة ( كتاب في جريدة ) التي تشرف عليها. " مدينة الرياح " رواية تتحدّث عمّا للملح من أهمية كبرى و قيمة قصوى في حياة قبائل وسط و غرب إفريقيا إلى درجة بلغت أن باع ربّ أسرة فقير ولده لتاجر قوافل الملح فلم يبلغ ثمنه سوى مساحة موطئ قدميه على لوح من الملح الّذي كانت عائلته في أمسّ الحاجة إليه. الملح كمورد رزق و ثراء لبعض من سكّان الجزيرة العربيّة، ربّما كان خير ما يعكسه هو ما ذكره الرّحّالة الألماني ( يوليوس أويتنج ) في كتابه عن أول رحلة قام بها إلى شمال الجزيرة العربيّة، حين زار قريتي ( كاف ) و ( إثرة ) فكتب يقول: " إنّ الضّريبة السّنويّة على ما ينتجونه من ملح بلغت ألفي مجيدي، و يصل ما يصدّرونه منه إلى بلاد الشّام فقط حمولة 400 جمل، يقايضونها بمثلها من الحبوب، فتكفيهم مؤونة سنة أو تزيد، فيبيعونه للأعراب مقابل ما يلزمهم من لحوم و وبر و أصواف، بل لا يختلف الملح عن النّفط حتّى فيما لعبه من دور في الانقلابات و الثّورات. فقد روى المؤرّخ المعاصر الشّهير ( ول ديورانت ) في مؤلّفه الضّخم ( قصّة الحضارة ) أنّ من أهمّ ما اجّج نيران الثّورة الفرنسيّة، كان ما فرضه أواخر ملوك عائلة ( البوربون ) الملكية الحاكمة، من ضرائب ملح باهظة، أثارت نقمة عارمة في فرنسا عامّة، و باريس على وجه الخصوص، فخرجت مظاهرات صاخبة، كانت بمثابة البذرة للثّورة الفرنسيّة اللاحقة. كما كان للملح دور مجيد في التّخلّص من الاستعمار البريطاني في الهندن حينما استعان به غاندي لإلى جانب مغزله الشّهير، الذي استخدمه كرمز للاستغناء عن منسوجات المصانع الانجليزية، فقد امر أتباعه بالتّوجّه إلى شطآن البحار و حفر الملاحات لاستخراج الملح، عوضا عن شرائه من الشّركات الانجليزية، فتعاون الملح و المغزل في الثورة على المستعمر الغازي حتّى تحرّرت الهند و نالت استقلالها. منزلة الملح عند العرب لا تقلّ رفعة و اعتزازا عمّا بلغه الملح عندهم، إن لم تزد، فهو رمز للتّآخي، و صفة لأحلى المرويات و حسان الجميلات، فالخبز و الملح يرمزان للصّفاء و الوفاء، و الملح تعني أمتع القصص و النّوادر، أمّا ملاحة النّساء فقد يكون أفصح ما يعبّر عنها ببيتين من الشّعر صدح بهما أشهر المطربين حين يشدو: قل للمليحة ذات الخمار الأسود ** ماذا فعلت بناسك متعبد قد كان شمّر للصّلاة ثيابه ** حتّى وقفت له بباب المسجد و لكنّ عزّ الملح ذاب بعدما سما طوال قرون و أجيال، إذ تراه اليوم مهملا، و خبراء التّغذية ينصحون بالتقليل منه و اجتنابه، وقاية من أمراض ضغط الدّم، و أصبح الدولار هو المتربّع على العرش يتحكّم بالسلع و يشتري الضمائر و و يتسلّط على النّاس.

0/Post a Comment/Comments