اللّغة العربيّة حصننا الأخير في المغرب العربي الكبير



اللّغة العربيّة حصننا الأخير في المغرب العربي الكبير


لقد فرض المستعمرون الفرنسيّون منذ أن وطأت
أقدامهم بلاد المغرب العربي قيودا و تراتيب تضايق اللغة العربية و تحاصرها و ترصد حركتها في جميع الميادين بهدف إضعافها بل إسقاطها و مسخ الذّاتيّة العربيّة المسلمة و تذويب أبرز مقومات الهويّة الحضاريّة و الثّقافية لسكّان هذه الرّبوع منذ أربعة عشر قرنا و بالذّات اللغة و الدّين، و تلك طبيعة الاستعمار الأوروبي عامّة، و بالذّات الفرنسيين على التّخصيص، فالتّاريخ الحديث يؤكّد حقيقة وهي أنّ أوروبا لمّا استعمرت العالم العربيّ في أكثره لم تبق مكانا لائقا لأحد لا يعرف لغتها و يلبس بزّتها و يتوجّه توجّهها.. و قد ترك هذا بصماته بارزة حتى اليوم في دول المغرب العربي بل و حتّى في دول الشّام خاصّة سوريا و لبنان بعد أن فرضت فرنسا انتدابها عليها عقب الحرب الكونيّة الأولى ( 1914 – 1918 ) وهو ليس بالأمر الغريب و المستبعد عن سلوكيات قوى البغي و الطّغيان منذ القدم، فهذا الأستاذ المرحوم أحمد تيمور في كتاب الآثار النّبويّة ) يتحدّث عن جرائم " هولاكو " ابن طاغية المغول " جنكيزخان " لمّا طرق بجيوشه بغداد قاعدة الخلافة و الدّولة العبّاسيّة سنة 656 هـ. فخرج إليه الوزير ابن العلقمي فاستأمن لنفسه و رجع بالأمان إلى المستعصم الذي خرج إليه في جمع من العلماء و الأعيان و البردة النبوية على كتفيه و القضيب بيده، فأخذهما منه هولاكو و أحرقهما في الحين و ذرّ رمادهما في دجلة ثمّ قال: ما أحرقتهما استهانة .. و إنّما تطهيرا لهما . و أمر بقتل جميع من خرج إليه. ثمّ دخل بغداد و استباحها أيّاما .. حتّى حرج النّساء و الصّبيان و على رؤوسهم المصاحف و الألواح .. فداستهم العساكر و ماتوا جميعا تحت سنابك الخيل، و استولى من قصور الخلافة و ذخائر الدّولة على ما لا يبلغه الوصف و لا يحصره الضّبط، و ألقيت كتب العلم و مصادر الثّقافة التي كانت بخزائنهم جميعا إلى دجلة فكوّنت جسرا تعبره العساكر و الخيل لتجوس خلال الدّيار. و لمثل هذا يذوب القلب من كمد ** إن كان في القلب إسلام و إيمان و هذا أمر مستقبح و منكر شرعا و عقلا طبق المنطق السّليم و العقل الصّحيح، و لكنّه جائز بل واقع في شريعة الغاب التي نسمّيها استدمارا و استذلالا بمقتضى سيطرة القويّ على الضّعيف، لذلك لا غرابة أن يقف الاستعمار الفرنسي بأدمغته المفكّرة و أقطابه المتخصّصين لتعمبقه في الأذهان و تمكينه في التّربيّة و التّعليم تحت غطاء نشر التعليم المدني و البيداغوجيا الحديثة و الطّرق العصريّة فيهنّ، و يقفون بالمرصاد لكلّ تحرّك إيجابي في دواليب اللّغة العربيّة و الشّرع الاسلامي بالمنطقة حتّى أنّهم جعلوا غرامة مالية و عقوبة بالسّجن البدني لكلّ من يفتح كتّابا لتعليم الصّبيان العرب مبادئ لغتهم أو تحفيظ القرآن دون ترخيص من سلطة الاستعمار في الجزائر، و هذه السّلطة نفسها أصدرت في المغرب الأقصى ما عرف في ذلك الوقت الظّهير المغربي الذي يوجب استعمال اللّغة البربريّة الأثريّة التي لا تكتب عوض اللغة العربيّة التي شرّفها ربّ العالمين بالقرآن العظيم و قالوا: " إنّها لغة الوافدين على المنطقة ". أمّا في تونس فقد نظّمت قوى الصّليب الأوروبي و الكنيسة الإقليمية بدعم من السّلطة الحاكمة المحتفلة بمرور مائة عام على استعمار الجزائر و نصفها على احتلال تونس حيث نظّمت المؤتمر الأفخارستي الذي تناول كبير أعضائه اللّغة العربيّة بالثّلب و الشّتم و وصفها بالميوعة ( لغة المعز و الوبر ) أي أنّها لغة البادية و الرّعاة الرّحّل بخيامهم الوبريّة، و لا تصلح للحضارة و التّقدّم و الاستقرار و تسيير الإدارة و نشر العلم.. و ردّ عليه أحد أعلام جامع الزّيتونة المعمور في ذلك الوقت الذي يمثّل فخر البلاد التونسية و حجّة في العلوم الدّينية و منها العربيّة في هذا الشّمال الأشمّ وهو المرحوم فضيلة الشّيخ أحمد بيرم بقوله: " إنّ اللغة كائن حيّ البحث عن موتها و حياتها أو فتورها و نشاطها كالبحث عن عوارض سائر الكائنات، يرجع إلى الكشف عن مقوماتها و عوارضها و صلاحيتها للقيام بما يطلب منه، و عناصر حياة اللغة العربيّة تكمن في بنائها على قاعدة الانشقاق و القياس و قبولها للتّطوّر في الأغراض و المعاني، و مرونة أسلوبها و غناها من حيث وفرة مفرداتها و صلاحيتها لتأدية ما يراد منها إفادته، و فصاحة ألفاظها و بلاغة تركيبه .. إلخ. فكانت بجماع هذه الخصال أعذب اللغات السامية منطقا و أسلسها لفظا و أجملها أسلوبا و أحكمها تركيبا و أوسعها مادّة و أثبتها أمام الصّدمات و التّقلّبات بما تهيّأ لها من أسباب البقاء و قهر عوامل الاضمحلال الذي نال غيرها فانقرضت من الوجود." و لولا ألطاف الله ثمّ فضل هذا الجامع العريق و ما كان يحويه من تعليم أصيل موروث عن سلف الأمّة منذ تأسيسه في مطلع القرن الثّني الهجري بالعاصمة التّونسيّة على يد الأمير عبد الله بن الحبحاب فكان عبر تاريخه الطّويل يمثّل القلعة المنيعة في وجه جميع محاولات التّغريب و المسخ الثّفافي و محاربة الهوية و الحصن الأخير الذي يتحصّن فيه علماء اللّغة و الدّين و يتخرّج منه دعاة الأصالة و زعماء الذّود عن الأهل و الوطن و مقدّسات الأمّة و مناوأة سياسة التّغريب الاستعماري الحديث بجميع أشكاله و أسابيبه إلى أن توقّف مدده و تعطّلت برامجه في فجر الاستقلال المجيد بحجّة توحيد التّعلبم الوطني في الدّولة المستقلّة.. فكانت هذه العمليّة المبيّتة ضربة لازب أسقطت الصّرح المنيع بالضربة القاضية و لسان حاله يقول: سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم *** و في اللّيلة الظّلماء يفتقد البدر و هنا نحن الآن و قد صدر قرار يلزم جميع المؤسّسات و المواطنين بإجباريّة التّعريب الكامل لجميع المراسلات و المنشورات و الملصقات الحائطيّة و الإعلانات التّجاريّة و المخاطبات الإداريّة في غيرة صادقة عن العربيّة باعتبارها الحصن الأخير الّذي يجب حمايته من هيكل الهوية الوطنيّة و في محاولة جادّة لتجديد ثقافي واسع و عميق ينبع من أصالة الوطن و يجسّم المصالحة مع الذّات .. و إنّ قرار التّعريب هذا الّذي انطلق العمل به لهو قرار رائد و شجاع في دولة أراد بانيه السّابق أن تكون بؤرة الفركفونيّة و ذيلا تبيعا للحصور الفرنسي بتقاليده و طقوسه، و قد نزل بردا و سلاما على قلب الشّعب المكدود و المتعطّش لمنابعه المطموسة، فاللغة الأمّ يجب أن تحضى بكامل العناية من أبنائها لتكون أداتهم الأولى الفاعلة في كلّ تقدّم، و سلاحهم الحيّ في كلّ تحرّك مبارك يدفعون به كلّ من يهاجم دينهم و قرآنهم أو يتجنّى على تاريخهم و حضارتهم.

0/Post a Comment/Comments