تاريخ أهمّ المعالم العسكريّة بمدينة المهديّة خلال الفترة الحديثة

بعد تهديم أسوار المدينة سنة 1555، ورث الأتراك بقايا جهاز دفاعي فاطمي امتد على كامل أطراف شبه الجزيرة، وقد حاولوا انطلاقا من نهاية القرن السادس عشر تحصين المدينة من جديد من خلال إحداث عدد من الأبراج تحولت معها الإستراتيجية الدفاعية من جهاز دفاعي ممتد ومتماسك إلى مجموعة من الأبراج المنفصلة. أ- البرج الكبير أو البرج الفوقاني:[1] يحمل هذا المعلم خطأ تسمية برج الرأس و هو برج تركي كمل بنائه في شهر محرم سنة 1004 هجري وهذا المعلم مؤرخ بواسطة نقيشة كتبت بخط نسخي شرقي مضمونها: [2] الحمد لله ولا حول و لا قوة إلا بالله و الصلاة و السلام على رسول الله كمل هذا الحصار المبارك بحمد الله و حسن تو (فيقه) على يد عبد الله الأمير الأرشد أبي عبد الله محمد باشا أعزه الله في غرة شهر محرم سنة 1004 يتميز المعلم بشكله غير المنتظم باعتبار أنه يتكون من جزأين غير متجانسين في مستوى مواد البناء وهو أمر راجع إلى أن البرج تمّ بناءه على مرحلتين متباعدين نسبيا. وقع تحصين المعلم بأربعة أبراج في الأركان ويتوّج مستواه العلوي بدروة ((Parapet تحمي ممشى العسس تتخللها فتحات للمدفعية، يرتكز الضلع الشمالي للبرج على قاعدة تتشكل من حجارة المداميك تتخللها بقايا أبراج ويبدو هذا القسم غير متجانس على مستوى البنية و الشكل مع بقية أجزاء المعلم مما يجعلنا نرجّح فرضية أنه قد بني على آثار منشئة دفاعية موروثة يطلق عليها مارمول[3] في وصفه تسمية القلعة، وهو معلم سابق عن الفترة العثمانية وجد في الموقع الذي تتفق جلّ كتب الرحالة والجغرافيين على أنّه مكان قصر عبيد الله المهدي. يقع الولوج إلى داخل البرج عبر مدخل منعطف يذكر بمدخل قصر القائم بأمر الله، وهو يفتح على سقيفة طويلة نسبيا تخترق جانبيها مجموعة من الردهات المنتظمة التي تعيد تخطيط باب زويلة، وهي تفضي بدورها إلى ساحة طولية بين القبلة والجوف امتدت على ضلعيها الغربي والجوفي بيت سكن عناصر الحامية التركية واحتلت زاويتها الجنوبية الشرقية بيت صلاة محدودة الأبعاد. ب- برج الرأس: يوجد هذا المعلم في طرف شبه الجزيرة من ناحية الشرق (Cap Africa ) ويمتد حسب دراسة R.Juffée على مساحة طولية (52 × 32م) ويصفه مارمول بأنه "برج يوجد في أقصى الشمال يعمل على مراقبة السفن في عرض البحر" (يحمل وصف مارمول للمدينة خطأ في الاتجاه 45° وهو ما يجعل المعلم يوجد في أقصى الشرق لا أقصى الشمال). لا تزال قاعدة هذا البرج بارزة في الجهة السفلية من الجانب الشرقي للمنارة الحالية، و يرجح ناجي جلول أن يكون تم إحداثه خلال الفترة التى سيطر فيها درغوث باشا على شبه الجزيرة مستندا في ذلك إلى الوصف الذي قدّمه ساندوفال (Sandoval) في سنة 1540. ج- البرج الصغير: البرج اللوطاني: يحمل هذا البرج الذي أحدث في مدخل المدينة أيضا تسمية" برج منصور" باعتبار أنّه يمثّل المكان الذي تحصن به الخليفة الفاطمي المنصور زمن ثورة صاحب الحمار وكان يشرف منه على جيوش أبي يزيد. يتكوّن هذا البرج من قسمين غير متجانسين إذ يمتد في جزئه الغربي على برجي باب زويلة اللذان يحصّنان مدخل المدينة و هو يفضي بدوره عبر سقيفة طويلة، خرقت جانبيها مجموعة من الردهات، إلى شارع المدينة الرئيسي من ناحية الشرق، ترتفع فوق البرجين ستارة (دروة) تحجب ممشى العسس تخترقها فتحات مدفعية. يمتد الجزء الثاني من هذا البرج إلى ناحية الجنوب و يتكون من مستوايين سفلي و علوي و يشتمل حسب وثائق الأرشيف على عشرة بيوت لسكنى الجنود و مسجد و مطبخ و قد تعرض هذا الجزء إلى عدد من عمليات الترميم خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ترتفع فوق هذا البرج مصطبة لاستقبال المدافع تمت حمايتها بواسطة ستارة تحتوي على عدد من الشرفات، يقوم تخطيط هذا القسم من المعلم على وجود ساحة صغيرة غير منتظمة الأبعاد تتوسّط مختلف وحدات البرج المعمارية و ينفذ إليها عبر مدخل يحتل زاويتها الشمالية الشرفية، يعود تاريخ البرج حسب بايسونال (J. A. Peysonnel ([4] إلى ما قبل 1555حيث قام الأتراك بعد سيطرتهم على المدينة بترميمه العديد من المرات. د- أسوار القرن التاسع عشر تجتمع المصادر المكتوبة وخاصة كتب الرحلة و الوثائق الإيكونوغرافية المتعلّقة بالنصف الأول من القرن التاسع عشر لتؤكد غياب الأسوار عن الجانب الغربي إذ يرسم [5]Charles de Chassirons خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر (1849) مدينة المهدية في أحد وثائقه الإيكونوغرافية يبرز من خلالها القسم الغربي من شبه الجزيرة ولم يبقى من خطي أسوارها سوى بعض أجزائها خاصة من بقايا السور المتقدم والأقسام السفلية لأبراج السور الرئيسي، ولم تعد ثمة منشآت دفاعية بالقسم الغربي للمدينة باستثناء البرج الصغير أو (باب زويلة). وأكّد بيليسياي (Pellissier)[6] من خلال وصفه لمعالم المدينة العسكرية سنة 1857 "أنها كانت تحتوي حصنا في أعلى نقطة من شبه الجزيرة إضافة إلى بقايا سور متهدم", كما نجد نفس هذا الوصف تقريبا لدى قيران ( Guerrin) في 1860.[7] كما تجدر الاشارة إلى أنّ وثائق الأرشيف المتعلّقة بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر تضيف رصيدا هاما للوثائق التي نعتمدها في دراسة الفترة الحديثة، فضمن هذا الصنف من المصادر تتوفر بالأرشيف العسكري للجيش الفرنسي وثائق هامة حول المواقع العسكرية بالمدينة تعود إلى سنة 1864 وقع تدعيمها برسوم إيكونوغرافية يبرز من خلالها البرزخ وقد أغلق بواسطة سور يأخذ موقع سور المدينة المتقدم.[8] تشير هذه الوثائق إلى أنّ عملية بناء هذا السور قد تمت سنة 1864 وهو معلم يمتد بين القبلة والجوف يعمل على غلق المدينة بشكل كامل، وقد أحاط بظرفية إنشائه دافع رئيسي يرتبط حسب هانيزو (Hannezo) [9] بالثورة " التي شملت أغلب مناطق البلاد بعد مضاعفة المجبى، حيث عمل أهالي المهدية على حماية المدينة من حركة النهب و السرقة التي انتشرت على اعتبار أنّها كانت مركزا يتجمع فيه الأثرياء وكبار الملاكين العقاريين الأتراك من جهة و الأوروبيين واليهود من جهة أخرى. وقد أقيمت لهذا الغرض حظائر البناء التي أشرف عليها محمد صفر، وهو قائد عسكري تركي متقاعد، قام على إثرها ببناء سور يغلق المدينة من البحر إلى البحر ثم سعى إلى تحصين السور بطريقة سريعة بواسطة مجموعة من المدافع المجلوبة من البرج الكبير." الوصف التقني لسور القرن التاسع عشر حضي سور القرن التاسع عشر (1864) بمجموعة من الإشارات الدقيقة التي تمكنا من خلالها من تحديد ملامحه العامة حيث تشير وثائق الأرشيف[10] إلى أن أبعاد السور تصل إلى 300م بين القبلة والجوف وهذا الطول يتعارض في الحقيقة مع نتائج الحفرية التي قام بها ليزين [11] والتي تحدد امتداد السور الرئيسي على 175م مما يجعلنا نميل إلى الإعتقاد بأنّ أبعاد تحصينات القرن التاسع عشر لا يمكن أن تتجاوز 200م باعتبار أنّها تأخذ كما ذكرنا مكان سور المدينة المتقدم الذي يعود إنشاؤه إلى الفترة الفاطمية. يستند السور في "طرفه الجنوبي على منزل القنصل الإنكليزي و من ناحية الشمال على برج طويل في حالة خراب"[12] وهو ما يؤكد أنه بني على آثار السور المتقدم حيث يبلغ ارتفاعه خمسة أمتار تقريبا ويصل سمكه إلى قدمين،[13] تتخلل السور في جزئه العلوي مجموعة من الشرفات تفتح باتجاه الغرب تتخلّلها فتحات المدفعية وهي تسند من الأسفل من خلال مصطبة معدٌة لاستقبال المدافع يقع غلقها من ناحية الشرق بواسطة بناء بارز. على المستوى الدفاعي تميز السور ببساطة تحصيناته إذ وقع دعمه بواسطة برج صغير بارز على بعد عشر أمتار من طرفه الشمالي يصل ارتفاعه إلى نفس مستوى المصطبة المعدة لاستقبال المدافع،[14] وهو أمر يمكن فهمه من خلال قراءة الظرفية التي أحدث فيها. يتوزع فوق أجزاء من المصطبة عدد من المدافع التي تمّ جلبها من البرج الكبير وقد وجهت نحو الطريقين الرئيسيين المؤديان إلى المدينة، يشبه هانيزو هذه المدافع بالفزاعات في إشارة إلى قدمها و عدم فاعليتها[15] وهو انطباع تؤكده مصادر الأرشيف الوطني التي تقدم وصفا لحالة الأبراج الإيالة التونسية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.[16] الأبواب: يقدم الرائد جوفاي العديد من التفاصيل حول عمارة السور لعلٌ أهمها التحديد الدقيق لمواضع الأبواب التي تخترقه حيث يشير إلى وجود بابين اثنين: يوجد الأول في وسط السور تقريبا وهو مدخل ثانوي أبعاده محدودة يصطلح على تسميته بباب الخوخة ويضل مفتوحا في الليل والنهار، أما المدخل الرئيسي الذي يفتح باتجاه الشرق فيوجد على بعد 42م قبلي باب الخوخة يقع إسناد مصراعيه من الأسفل بواسطة عدد من العجلات التي تسهل تحريكه، يتم عادة غلق هذا المدخل أثناء الليل. يعتقد جوفاي أن هذا الباب أقيم مكان أحد أبواب سور المهدية المتقدم وأن بعضا من الأجزاء الساندة للباب القديم قد أعيد استعمالها في القرن التاسع عشر. إجمالا يمكن القول بأننا نقف بإزاء معلم يمكن اعتباره أحد أشكال التحصينات العسكرية الرئيسية التي شهدتها المدينة خلال القرن التاسع عشر، وقد جاءت عملية التحصين استجابة لظرفية تميزت بامتداد سريع لثورة 1864 والخطر المتزايد الذي مثلته على المدن بصفة عامة. المراجع: 1 حول أبراج مدينة المهدية أنظر Djelloul (N), les fortifications..,op.cit. Juffé (C.), "Rapport sur Mahdia", loc.cit. 2 حول النقائش العربية بمدينة المهدية أنظر Roy(B.), "Inscriptions arabes de Mahdia", in Revue Tunisienne n°33, l’institut de Carthage, 1915. 3 مارمول كرافخال، وصف إفريقيا، سبق ذكره، ص. 73. Peyssonnel (J-A), Relation d’un voyage sur les côtes de Barbarie, présentation et notes de Lucette Valenci, 4 Paris 1987, p. 97. Charles de Chassirons, Aperçu pittoresque de la régence de Tunis. Paris 1849. 5 Pellissier (E.), Description de la régence de Tunis. 2ème édition Tunis 1980, pp. 95-9. 6 Guerrin (V.), Voyage archéologique dans la régence de Tunis. Paris 1862, p. 132. 7 Archive de l’armée de terre Française, bobine S : 247 ; Archive 2 H – 1 ; dossier n° 1. pp. 157-171. 8 Hannezo (C.), " Mahdia, notes historiques ", loc.cit, p. 247. 9 Archive de l’armée de terre Française, Bobine S: 247, Archives 2 H-1 10 Juffé (C), "Rapport sur Mahdia", loc.cit, pp. 8-9……………………………………………………………….12 Archive de l’armée de terre Française, Bobine S: 247, Archives 2 H-1.............................................................13 14 في الحقيقة هذا الحصن ليس إلا بقايا برج فاطمي على الأرجح حيث يمكن ملاحظة وجوده بشكل واضح في الرسم الذي يقدمه : CharlesDe Chassiron, Aperçu…, op.cit. Hannezo (C.), « Mahdia, notes historiques », loc.cit, p 247. 15 16الأرشيف الوطني، موجز الدفاتر : دفتر عدد 3360 : أسماء عسكر ضباط الطبجية الرابع. دفتر عدد 3139 : حصر للأسلحة بالمنستير والمهدية و صفاقس . يشير هاذين الدفترين إلى أن " عدد المدافع بالأبراج 19 منها 11 (سواقط كليا) و4 صحاح و 4 (سواقط جزئيا) من غير أسرٌة "

0/Post a Comment/Comments