الملامـح العامـة لتخطيـط مدينة المهديّة ومميّزات الفضاء العمراني

أ- تخطيط المدينة: من الصّعب الحديث عن نموذج إسلامي مستحدث في تخطيط المدن في إفريقية ذلك أنّها قد ورثت في ملامحها الكبرى تخطيط المدينة الرّومانية، إلا أن هذا لا يسمح لنا كذلك بالحديث عن نموذج موحّد للمدن الإسلامية كما يؤكد ذلك مراد الرماح[1] إذ نجد مدنا ذات صبغة عسكرية و أخرى تجاريّة، ومدنا للخاصّة وأخرى للعامّة، وهو ما خلق أنماط متباينة من التخطيطات كان ظهورها نتاجا لمجموعة من المعطيات التّاريخية والجغرافية. امتدت شبه جزيرة المهدية على مجال جغرافي محدود الأبعاد باعتبار أن البحر يحيطها من ثلاث جهات و هذا ما أدّى إلى حصر التحوّلات التي شهدتها المدينة ضمن هذه الرّقعة الضّيّقة. بصورة عامة تميّز تخطيط المدينة وعمارتها منذ الفترة الفاطمية بصبغته الدّفاعية باعتبار أن أهمّ ما ميّز نسيجها العمراني هو انتشار المنشآت الدّفاعية التي يبقى السّور أحد أهم أشكالها، خاصّة وأنّها كانت تمثّل مدينة الخاصّة أو مدينة سلطانية، وقد حافظت على خصائصها الطّبوغرافية هذه إلى نهاية العصر الوسيط المتقدّم. بعد تركّز أركان الدّولة الحفصية وبسط نفوذها في إفريقية نشطت الحركة التجارية بميناء المدينة وهو ما ساهم في تحوّلها إلى محطّة تجاريّة متوسّطة الأهمّية وبروز تحوّل تدريجي في مستوى امتداد أسواقها وتطوّر حركتها العمرانية. أمّا خلال الفترة العثمانية فقد ورث الأتراك فضاء عمرانيا يقرب إلى الإخلاء السكاني[2] بعد أن تعرّضت أجزاء كبيرة من المدينة إلى التّخريب قبل خروج الأسبان منها، وقد قامت العناصر الوافدة مع نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر بإعادة إحياء هذا المجال والحفاظ على تقسيماته الكبرى. جاء تخطيط المدينة في الفترة العثمانية مستجيبا في أبعاده العامّة للبنية العمرانية الكلاسيكية التي ميّزت المدينة الإسلامية بإفريقية، حيث تقوم طبوغرافية شبه جزيرة المهدية على وجود شارع كبير يربط طرفي المدينة انطلاقا من المفتح الشّرقي لباب زويلة و وصولا إلى البرج الكبير، وقد فرضت جغرافيتها المحدودة الاتساع في مستوى المحور الذي يربط الشّمال بالجنوب، غياب شارع رئيسي ثان يتعامد مع الأوّل وهو ما جعل مركز المدينة، الذي تزحزح خلال الفترة الحديثة نحو الغرب من ساحة الجامع الكبير إلى رحبة السّوق، يتحوّل إلى مساحة محدثة تقترب هيئتها من التّربيع وتشكل مركزا دينيا و تجاريا ارتبط موقعه بوجود أحد أهمّ المساجد الحنفية وهو ما يمثّل كذلك استجابة للمبادئ الإسلامية التي تحاول أن تجعل من الرّموز الدّينية والرّوحية محاور أساسية تتركّز في مفاصل النّسيج الحضري. على المستوى الوظيفي هناك فصل واضح بين المجال التّجاري والمجال السّكني، حيث امتدّ الفضاء التّجاري على الجزء الغربي من المدينة و قد جاء على هيئة خطّين متوازيين من الأسواق، أما المجال السّكني فيمتد على الجانب الشرقي (الحومة الفوقية والحومة الوسطية) ويتمحور حول شارعين رئيسيين (زنقة)(نهج الحاج محمد عبد السّلام و نهج سيدي جابر) يمتدّان بطريقة طولية بين الشّرق والغرب وتتفرّع عنهما أزقّّة صغيرة و ملتوية. ب- ملامح المشهد العمراني: على الرّغم من الحركيّة العمرانية الكبيرة التي شهدتها المدينة خلال الفترة العثمانية والتي تزامنت مع ظهور بوادر نهضة اقتصادية ارتبطت خاصّة بقيام بعض العائلات التركية الوافدة بتجديد أقسام هامّة من غابات الزياتين الموجودة بظهير المدينة الزراعي، فإنّ المشهد العمراني تميّز بشكل عام بعدم تجانسه إذ بقيت أقسام مختلفة من شبه الجزيرة خالية تقريبا من التعمير حيث توفّر وثائق الأرشيف الخاصّة بالقرنين الثّامن والتّاسع عشر وصفا عرضيّا تكثر فيه الإشارات إلى وجود عدد هام من "الخرائب" التي تتخلّل المشهد الحضري، الذي يكتسب حسب نفس المصادر طابعا ريفيّا إذ تنتشر "الزّرائب" في أقسام كثيرة منه خاصّة في الجانب الشرقي من المدينة. أمّا على المستوى المعماري فنجد تباينا واضحا داخل المجال السكني بين القسم الشّمالي الذي ينتمى أغلب سكّانه إلى فئة البحّارة وصغار الفلاحين، وتميزت عمارة الدّور داخله ببساطتها واعتمادها على تخطيط قائم على وجود طابق واحد تتمحور وحداته حول صحن مركزي يقترب غالبا من التّربيع، وبين القسم الجنوبي الذي يشرف على الميناء سكنته كبرى العائلات التركية وتميّزت هيئة عمارته بوجود عدد من الدّور التي تتشكّل من طابقين وتحمل تفاصيلها الداخليّة مجهودا فنّيا واضحا تتداخل فيه أشكال الزخرف العثماني والأوروبي.
المراجع: 1 الرماح (مراد)، "ملا حظات حول تخطيط المهدية وعمارتها في العهد الإسلامي المبكّر"، مجلّةإفريقية العدد 14، المعهد الوطني للتراث، 1995، ص ص. 10- 11. 2 "Aujourd’huit bien déchu de sa puissance et de sa splendeur, de belles et épaisses murailles percées de nombreuses brèches, des tours découronnées de leurs créneaux ou même fendues jusqu'à leur base, beaucoup de maisons détruites ou très délabrées, plusieurs mosquées démolies, d’autres tombant de vétusté …" Guerin (V.), Voyage…, op.cit, p. 133.

0/Post a Comment/Comments