مسجد التّوامه بمدينة المهديّة

I- الموقع، التاريخ والشكل العام: 1- الموقع: يقع المعلم في الحدّ الفاصل بين المجال السكني الذي يمتد على الجانب الشرقي من شبه الجزيرة والمجال التّجاري الذي يمتدّ عبر شارع رئيسي باتجاه الشّرق من مدخل المدينة (السقيفة الكحلة) ويحدّه شرقا ساحتي المسجد الأعظم وسيدي بن عيسى وهو ما يصطلح على تسميته محليا بالحومة الوسطية. يفتح المعلم عبر مدخل واحد باتجاه الجنوب ويشرف على بطحاء سيدي بن عيسى وهو يندمج بشكل كامل داخل المجال السكني من جهات الشرق والغرب والجوف. 2- مسألة التأسيس: يشير ناجي جلّول إلى أن المسجد يرجع على الأرجح إلي القرن التاسع عشر، إلا أن وثائق الأرشيف الموجودة بأرشيف أملاك الدولة قد مكنتنا من تأريخ هذا المعلم بأكثر دقة حيث تشير نسخة نقلت عن وثيقة التحبيس الأصلية بتاريخ أواخر شهر محرم الحرام عام 1256هـ/1840م إلى أن المسجد يعود إلى موفى شهر رجب من سنة 1146 هجري الموافق لسنة 1733 ميلادي وهو تاريخ انتهاء الأشغال. - المؤسّس: تشير وثيقة التحبيس إلي أن المعلم وقع تأسيسه من طرف الأخوين أبي الحسن علي أولداشي وشقيقه مصطفى ابنا المرحوم نور الله الحنفي ومن المرجّح أن يكونا من عناصر الحامية التركية. - أوقاف المسجد حسب وثيقة التحبيس : * جميع الغرس المشجر زيتونا مستجد الغراسة الكائن خارج المهدية بالمكان المعروف بقاساس المشتمل على خمسة وعشرين أصل زيتون ويعرف بالفتح القبلي, يحده قبلة حق للمالك المذكور وجوفا كذلك وشرقا حسن باكير. * جميع الغرس المشجر زيتونا مستجد الغراسة الكائن خارج المهدية و مشتملا على ستين أصلا زيتونا يعرف بواد النخالة و تحدّه قبلة الفقيه وأخوه الحاج محمد ولد الحاج علي شرقا وغربا حق للمالك المذكور وجوفا ورثة القواسمة. * جميع الغرس المشجر زيتونا مستجد الغراسة الكائن خارج المهدية ومشتملا على ستين أصلا زيتونا يعرف بواد النخالة ونجده قبلة الفقيه وأخوه الحاج محمد ولد الحاج علي شرقا وغربا حق للمالك المذكور وجوفا ورثة القواسمة. - توزيع مداخيل الأوقاف: جاء نصّ الوقفية مطلقا على عكس ما رأيناه في جامع مصطفى حمزة "يصرف ما يحصل من ثمن غلال الوقفين المذكورين في مصالح المسجد المذكور من رم وبناء وحصى واستصباح وراتب إمام فيما هو أهم وأصلح بالمسجد المذكور وميضأته وجعلا في ذلك النظر لإمامه الفقيه أيوب المذكور مدة حياته ثم للأصلح من عقب الإمام المذكور أو من عقب المحبسين وعقب عقبهم ما تناسلوا وامتدت فروعهم في الإسلام". 3- التخطيط: يتكوّن المعلم من قسمين منفصلين : القسم الأول: المسجد ويتميز بشكله المربع حيث يمتد على ثلاث بلاطات طولية متعامدة مع جدار القبلة و ثلاث بلاطات أخرى متوازية معه. القسم الثاني: يتكون من الميضأة وهي منفصلة عن المسجد. II- وصف الوحدات المعمارية: 1- بيت الصلاة: أ- الواجهة الخارجية يفتح المعلم بواسطة مدخل واحد يحتل الزاوية الشرقية من الواجهة القبلية على ساحة سيدي بن عيسى وتكتسب الواجهة المذكورة طابعا جماليا يتأتى من هندستها المعمارية الجامعة بين طابعي البساطة والجمال. تقوم هندسة المدخل الطرفي الذي يحتل الزاوية الجنوبية الشرقية على مبدأ التناظر التام بين مكوناته التقنية والزخرفية، ويحيط به إطار مستطيل يتكون من عضادتين وساكف جميعها من حجارة الكذٌال المهندمة التي يبلغ سمكها 30صم. يعلو الساكف إطار نصف دائري من الحجارة المهندمة تتصدٌره فتحة مطموسة على شاكلة مستطيل صغير يرتكز ضلعه السفلي على أعلى الساكف[1]، في القسم الغربي من الواجهة نافذة ذات مشبك حديدي ( 0.90×1.57م ) ترتفع على مستوى الشارع 1.5م تؤطرها حجارة الكذٌال وتعلوها كوٌة صغيرة ترسم شكلا مستطيلا تعمل على إضاءة المعلم، يرقى إلى بيت الصلاة عبر ثلاث درجات يصل ارتفاعها إلى 1م. ب- الوصف الداخلي للمسجد: تمتدّ بيت الصلاة على مساحة تقترب من التربيع (6×6.60م) وتتميّز عن المعالم السابقة بغياب الأروقة والمجنٌبات، يقسم هذا الجزء بواسطة بائكتين تتشكّلان من ثلاث عقود متجاوزة ضعيفة الانكسار قدٌت من تراصف فقرات حجارة الحرش المهندمة وأطٌرتها أفاريز ضئيلة البروز. ترتكز العقود في الأطراف على 12 دعامة ساندة، تتكون من تراصف الحجارة الطولية المهندمة وهي تتوزع على الواجهات الأربعة وتتميز بهيئتها المندمجة جزئيا في الحائط. تلتقي الأقواس وسط القاعة على أربعة أعمدة اسطوانية مجلوبة من أحد العمائر القديمة ترفع على أكتافها أربعة تيجان عتيقة وغير متجانسة تعلوها وسائد حجرية مهندمة تشد بواسطة عدد من العوارض الخشبية، تقسم عناصر الارتكاز بيت الصلاة إلى تسع أساكيب ذات شكل مربع ( 1.80×1.80م )، كما تجتمع الأقواس والأساطين المركزية والدعامات الساندة لتعمل على رفع سقف بيت الصلاة الذي يتكون من تسع أقبية متقاطعة ذات أحرف حادٌة. على مستوى الزوايا الركنية للضلع الجوفي يتم إبراز عميٌدين اسطوانيين مندمجين في الحائط على ارتفاع 1.65م يحملان تيجانا كورنثية تتشكل من تراكب أوراق الأكانتس وهي تلعب دورا زخرفيا أكثر منه معماريا حيث تعمل على كسر الرتابة التي يخلقها تتابع الواجهات الصمٌاء. يتصدر المحراب واجهة جدار القبلة و يبلغ عرض فتحته 1.10م وعمقه 1م وقد جاء على هيئة عقد نصف دائري متجاوز من فقرات الحجارة المهندمة يرتكز على عميٌدين اسطوانيين يصل قطرهما إلى 0.37م يحملان تاجين ذوي تقاليد زيرية تعلوهما قواعد مدرٌجة، في مستوى أعلى بدن العمود نحتت مساحتين زخرفيتين بارزتين تحمل الأولى نص نقيشة ذات مضمون ديني، في حين كسيت الثانية بواسطة زخرف نباتي بارز. ينقسم باطن المحراب إلى جانب علوي جاء على شكل نصف قبة ملساء ترتكز بدورها على قسم سفلي ( نصف البرميل ) خال من جميع مظاهر الزخرف يصل ارتفاعه إلى 1.20م. إذا أخذنا بعين الاعتبار المجهود الإنشائي والزخرفي المبذول يمكن تصنيف هذا المحراب ضمن "المحاريب الوظيفية" ذات الطابع البسيط والتي لا يهم في خلفية إنشائها الجهد الزخرفي بقدر ما يهم دورها الوظيفي.[2] تحيط المحراب من ناحية الغرب نافذتين متراكبتين، تبرز العليا منها على شاكلة كوٌة مستطيلة الشكل يقع التركيز على وجودها بواسطة شكل صدفي يزوٌق قسمها العلوي. أساطين بيت الصلاة: 1 و2 : عمودين اسطوانيين يحتلان الزاوية الجنوبية الشرقية والشمالية الغربية للمسكبة المركزية ببيت الصلاة، يصل ارتفاع بدن العمود إلى 1.90م ويرفعان تاجين مجلوبين من إحدى العمائر القديمة من النوع الكورنثي التي يصل ارتفاعها إلى 0.35م ويحلٌى واجهاته الأربعة تراكب ورقات الأكانتس. 3 : عمود اسطواني يوجد في الزاوية الشمالية الشرقية للمربع المركزي لبيت الصلاة يبلغ ارتفاعه 1.90م ويحمل تاجا على شاكلة قاعدة مقلوبة. 4 : عمود اسطواني يحتل الزاوية الشمالية الغربية، له نفس الأبعاد ويحمل تاجا ذو شكل تربيعي خال من الزخرفة. تتشكل مجموع الأعمدة والتيجان من الرخام الأبيض وتتميّز بعدم تجانسها باعتبارها من مستجلبات الخرائب القديمة وهي بذلك لا تعاصر تأسيس المسجد. 2- الميضأة: تحدٌ بيت الصلاة من جهة الشرق حاليا ميضأة ذات مفتح مستقل باتجاه القبلة، وهي حديثة إذ تعود إلى سنة 1922 [3]، في حين تشير وثيقة التحبيس الخاصة بتأسيس المسجد إلى وجود ميضأة تعود إلى القرن الثامن عشر دون تحديد مكانها، وقد أكدت وثائق الأرشيف الوطني أن الميضأة الأصلية منفصلة عن المسجد وتوجد تحديدا قبالته وقد تمٌت إزالتها و تعويضها بأخرى حديثة لغاية توسيع الطريق العام.[4] يمكن ملاحظة آثار الميضأة الأصلية من خلال بقايا قبوين طوليين يمتدان على عرض 2.32م، وهو نفس النموذج الذي نجده تقريبا في جامع الحاج مصطفى حمزة. 3- الزّخارف و النّقائش: أ- الزخارف: السمة الغالبة على المعلم هي بساطة زخرفته حيث تغيب عنه مربعات القاشاني والعقود الجصيٌة وغيرها، تتميٌز الواجهات الداخلية بتواتر العقود الصمٌاء ضئيلة البروز التي تتشكل من الحجارة المهندمة والمتراكبة. يزوّق أعلى العمود الغربي الذي يشد حنية المحراب بواسطة لوحة زخرفية تمتد على مساحة مستطيلة يتداخل فيها الزخرف الهندسي والنباتي. تتخذ كوٌة الإضاءة شكلا مستطيلا يقع التركيز على وجوده بواسطة شكل صدفي يغطي قسمه العلوي. ب- النقائش: نقيشة المحراب : نص ديني كتب بخط نسخي بارز على القسم العلوي من بدن العمود الشرقي الذي ترتكز عليه حنية المحراب وهي تمتد على ثلاثة أسطر طمست أغلب أحرفها. 4- الصّيانة: على الرغم من محافظة بيت الصلاة على هيأتها الأولى إلاّ أنٌ المعلم يحتاج إلى مزيد من الصيانة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التأثير الكبير لدرجات الرطوبة العالية على مواد البناء. III- التعليق: يصنف المعلم ضمن مساجد الخمس الموجودة بفضاء المدينة وهو أول مسجد أحدثه الأتراك خارج أسوار البرج الكبير، مما جعله يكتسب أهميٌة خاصة وقد وقع إحداثه على قطعة أرض بيضاء شاغرة (قاعة أرض). توصٌلنا إلى تأريخ المعلم من خلال وثائق الأوقاف التي ترجعه إلى موفٌى شهر رجب من سنة 1146 هجري الموافق لسنة 1733م، و يتوافق هذا التاريخ مع بدايات فترات الاستقرار التي شهدتها شبه الجزيرة بعد أحداث القرن السابع عشر، مما جعل المسجد يكتسب أهميٌة خاصة[5]. يحمل المعلم تسمية جامع التوامه وهي تسمية أصلية تحيل إلى عملية التأسيس باعتباره شيٌد من طرف شقيقين وهما الحاجان أبي الحسن على أولداشي وشقيقه مصطفى ابنا نور الله الحنفي، وهو ما يجعلها تحمل بعدا تذكاريا يهدف إلى تخليد شخصيٌتي مؤسسا المسجد وهما على الأرجح أحدا أفراد الحامية التركية الموجودة ببرج المهدية. يكتسي المعلم أهمية خاصة من الناحية المعمارية على اعتباره أوٌل مثال للمساجد التركية بالمدينة خاصة وأنه حافظ على تخطيطه الأوٌل، وهو ما يساعد على إبراز جانب من مستويات التأثر والتأثير بين الأنماط المعمارية الموروثة وما حملته العناصر الاجتماعية الوافدة، خاصة وأنٌ المعلم، على خلاف أغلب مساجد المهدية، مستحدث ولم يبنى على أنقاذ مسجد سابق. على المستوى المعماري يتميز تخطيط المسجد بشكله المربٌع الذي يقسم بدوره إلى مربٌعات صغيرة متقايسة عبر عدد من البوائك المتوازية ويستجيب هذا التخطيط لتقاليد محليٌة ميٌزت العمارة الدينية الساحلية بصورة عامة باعتبار أنّ المساجد المربعة تنزع إلى الاقتراب من العصر الحفصي وأعالي العصر الوسيط. على المستوى الفنّي يتميز المعلم ببساطته إذ تستمدّ بيت الصلاة بعدها الجمالي من خلال مبدأ التّناظر الذي يخلقه تخطيطها التّربيعي، إضافة إلى أنّه يمثّل وحدة متماسكة لم تتعرض لعمليات الإضافة التي عادة ما تشوه الطابع الأصلي. من ناحية أخرى تم استعمال الشكل الصّدفي لخدمة الجانب الفنّي داخل بيت الصلاة وهو أمر طبيعي باعتبار أن الأتراك قد تأثّروا بالتقاليد المعمارية الإفريقية في إنشاء أنصاف قباب المحاريب و هو ما يجعلنا نعتبر هذه التقنية تمثّل تواصلا لتقليد محلٌي يستمدٌ جذوره الأولى من العمارة الرومانية التي تأثرت بها العمارة الفاطمية على وجه الخصوص. على المستوى الإنشائي تتميز بيت الصلاة بارتفاع سقفها الذي حمل على مجموعة من العقود ضعيفة الانكسار وهي تساهم في رفع هذا القسم إلى أعلى من ناحية والتخفيف من ثقل الأقباء المتقاطعة من ناحية ثانية، وقد درج استعمال هذه التقنية في عمارة الكنائس خاصة والتي تأثر بها الأتراك وعملوا على توظيف بعض جزئياتها داخل المساجد. من ناحية أخرى تبرز التقاليد التّركية من خلال اعتماد الخطّ النّسخي الشرقي الذي أصبح الخطّ الرّسمي منذ سيطرة الأتراك على افريقية، إذ استعمل في شكل بارز لكتابة نصّ ديني على أعلى العميٌد الشرقي للمحراب. سُقّفت بيت الصلاة بواسطة أقباء متقاطعة بارزة الأضلاع، ويعتمد في هذا الشكل من التسقيف على تقسيم المساحة المراد تسقيفها إلى مربّعات وبناء سقف فوق كل مربع، حول هذه التقنية يشير سليمان مصطفى زبيس[6] إلى أن كلّ مربّع في تونس يأخذ تسمية التربيعة وهي" سقف نصف أنبوبي يشقه في الزاوية 90 درجة ويلتحم به سقف آخر مثله, وأما من حيث المظهر فتبدو التّربيعة في صورة سقف مربّع ينقسم إلى أربعة مثلثات كروية تلتقي في نقطة وسط ." يعيد سليمان مصطفى زبيس هذه التقنية إلى القرن الرابع ويربط ظهورها بالفاطميين, إلا أنّ ما يمكن ملاحظته أن قباب مسجد التوامه قد تكون أيضا امتدادا لأشكال القباب المضلٌعة ( Voûtes d’ogives à nervures ( التي درج استعمالها بصفة خاصة في عمارة الكنائس المسيحية خلال الفترة الحديثة، باعتبار قدرتها على رفع السقف إلى ارتفاع هام، ومن أهمّ الأسباب التي تجعلنا نميل إلى هذا الاعتقاد أن عملية محاكاة نماذج من العمارة الدينية المسيحية ظاهرة دارجة في العمارة التركية حيث تبقى عملية إنشاء مركب السليمانية باسطنبول على شاكلة كنيسة آيا صوفيا أهم الأمثلة على ذلك.
المراجع: 1 , loc.cit, p 231. " Histoire topographique …" Djelloul (N.), 2 أرشيف أملاك الدولة، ملف الأحباس المشتركة، صندوق أوقاف جامع التوامة، وثيقة غير مرقّمة. 3 العوني (حبيب)، المهدية العبيدية، سبق ذكره، ص. 119. 5 مرابط ) رياض(، مساجد و جوامع...، 6 سليمان مصطفى زبيس، القباب التونسية في تطوٌرها، المعهد القومي للآثار والفنون، تونس 1959، ص. 16.

0/Post a Comment/Comments